التصميم لعمار العيسى

أعلن منذ فترة رائد الفضاء السوري، اللواء محمد فارس، أنه في مراحل متقدمة من إجراءات الحصول على الجنسية التركية. تذكرته عندما كنتُ طفلاً في التاسعة أتسمّر أمام التلفاز، حين انطلقت الرحلة "سيوز TM-3" باتجاه محطة الفضاء السوفيتية "مير" في تموز 1987، وكان قلبي يصعد إلى السماء معها لا يثقله سوى صوت المذيع وهو يقول: "كل النجوم جاءت إليك مسرعةً يا حافظ الأسد". وبعد عدة أيام تحدث محمد فارس مع الأسد الأب عبر بث مباشر تجمهر السوريون جميعاً لمشاهدته ولسان قلوبهم يقول: "لقد وصلنا إلى الفضاء"، لكن قلبي وقع على الأرض يومها، كما قلوب الكثيرين، لأن "سوريا الأسد" هي التي بلغت الفضاء.

كحال بقية السوريين في المنفى، يبحث محمد فارس عن جنسيةٍ أُخرى، أو عن جواز سفرٍ آخر يمنحه حرية الحركة والتنقل داخل وخارج الأراضي التركية، لأن جواز السفر السوري يحتاج إلى 400 دولار تدفعها كرسوم للسفارة السورية في اسطنبول، ويحتاج إلى ذات المبلغ أو أكثر تدفعه للسمسار الذي سيحجز لك الموعد في السفارة، كما تحتاج إلى أكثر من موعد لتحصل على جواز السفر في حال حصلت على الموافقة الأمنية. وفي كل مرة ستقف في الطابور من الثامنة صباحاً حتى ما يشاء.. موظفو السفارة، وهذا لا ينطبق في غالب الأمر على المنشقين عن جيش النظام.

بعد الحصول على جواز السفر المحدود بعامين، ستمضي العام الأول في التنقل بين السماسرة لتحصل على الإقامة، ويتصاعد الرقم الذي تتفاوض عليه في كل مرة تفشل فيها بالحصول على الإقامة، حتى تجاوز اليوم عتبة الخمسة آلاف دولار، وتمضي العام الثاني في البحث عن سمسار آخر لحجز الموعد لتجديد الجواز، ثم تغوص في بيروقراطيات تجديد الإقامة.. وهكذا دواليك.

في المحصلة يحتاج السوري إلى أن يتحزّم بعشرة آلاف دولار ليحصل على الإقامة، المبلغ الذي يكفي عائلة لمدة عامين في الجنوب التركي. بمعنى آخر، يعتبر هذا المبلغ ثروة في ظروف شحت فيها فرص العمل للسوري الذي يحمل بطاقة الحماية المؤقتة "الكيملك"، فالعمل خارج المنظمات لا يأتي بدخل يتجاوز 3000 ليرة تركية (ما يقارب 500 دولار)، ثم أن العمل داخل المنظمات يحتاج إلى إقامة أو جنسية ثانية في الغالب، وإذن عمل متعسر في كلتا الحالتين، وسيتم ترحيلك إلى سوريا إذا ما تم ضبطك تعمل بدونه، كما حصل مؤخراً مع العاملين في بعض مطاعم ومقاهي أورفا.

للمنشق عن الجيش قضية أُخرى أكثر تعقيداً، فهو متهم بالخيانة عند الفروع الأمنية التابعة للنظام، الخيانة التي تحرمه من حقوقه المدنية كمواطن سوري، وهذا يسترعي مبالغ إضافية تدفعها كرشى للتعمية على اسمك ريثما تحصل على الجواز.

في منحىً بديل، يتردد السوريون بشكل يومي على دائرة الهجرة التركية للسؤال عن أسمائهم إن كانت قد ترشحت للحصول على الجنسية، وعند اليأس يبحثون عن حلولٍ أُخرى، فالبعض ينقل قيده إلى ولايات فيها تسهيلات للحصول على الجنسية، والبعض الآخر يتقدمون إلى الدراسية الجامعية لأن طلبة الجامعات حصلوا على الجنسية بمعدل كبير ولافت في فترات سابقة، ومنهم من يراسل إدارة الهجرة في أنقرة أو يوكل محامياً تركياً قد يكون قادراً على "دحش" اسمه في "السيستم".

هاجر الملايين من السوريين باتجاه أوربا، كحل جذري يؤمن لهم مستقبلاً أفضل بجواز سفر بديل أو جنسية بديلة، وعاد العديد منهم إلى تركيا وسوريا بعد حصوله عليها، منهم من يعمل بالشأن العام وعاد ليتابع ما بدأه بإمكانية كبيرة للتحرك بين المدن والبلدان، ومنهم من أصبح يتصرف كإنسان "طبيعي" قادر على السفر بأي وقت يشاء بغرض الزيارة أو السياحة أو العمل.

ارتفع قلبي مرةً أُخرى عندما انشق محمد فارس، فهذا يعني أن سوريا الثورة وليست سوريا الأسد هي التي بلغت الفضاء، وارتفع أكثر عندما قرأت خبر اقتراب محمد فارس من الجنسية التركية، لكنه بقي هناك معلقاً بين السماء والأرض، فلا هو صاعدٌ إلى السماء فرحاً بجواز السفر التركي الذي حرر سوريّاً آخر من القيود، ولا هو واقعٌ على الأرض حزناً على جواز السفر السوري الذي تركناه مرغمين