شابات سوريا الواعدات.. (تلاشي الأمل في المستقبل الشخصي)

بالقرب من بلدة كيليس ، جنوب وسط تركيا ، من أجل العبور إلى سوريا لقضاء عطلة عيد الأضحى الإسلامي [2017] / بولنت كيليتش - AFP

ليديا ويلسون
17 آذار NEWLINES
ترجمة مأمون حلبي

قبل عشر سنوات حطّمت الحرب آمال كثير من السوريين. لكن ما من أحد عانى بقدر ما عانت النساء منذ عشر سنوات.

كانت ليلى طالبة سنة ثانية في جامعة دمشق تدرس علم الاجتماع. كانت حياتها قبل ذلك المنعطف في تاريخ سوريا فترة "رفاه جميل". طالبة شابة تستمتع بالحياة تَحضْر دروسها في النهار، وتخرج مع صديقاتها بعد ذلك. كانت أحلامها وقتذاك مثل أحلام أي طالب آخر ينتمي للطبقة الوسطى. لديها طموحات تتعلق بتعليمها وحياتها المهنية القادمة، وتتطلّع إلى أن تجوب العالم. أما الزواج وبناء أسرة فلم يكونا حتى ذلك الوقت ركناً أساسياً في خططها: هذا أمر سيحدث في وقت ما في المستقبل. هكذا كان تفكيرها.

لم تستطع ليلى إنهاء دراستها الجامعية. في البداية منعها العنف من حضور دروسها. كان النظام يُطلق القذائف على الطريق الواقع بين بيتها في دُمّر والجامعة، واحتمال الاختطاف كان كبيراً. بعد ذلك برزت عقبات مالية. عندما بدأت دراستها في الجامعة كانت فكرة عدم إكمالها تعليمها غير واردة في تصورها قدر ما كانت الحرب كذلك، هذه الحرب التي أثّرت على حياتها بعمق بالغ. تقول: "كل يوم يأتي بأزمة أسوأ من اليوم الذي قبله".

في تشرين الثاني 2012، عندما ألقت أجهزة الأمن القبض على شقيقها واقتادته بعد أن صادرت الحاسوب الذي يخصه، أدركت ليلى بشكل جليّ واقع النزاع. منذ ذلك الوقت انقطعت أخبار أخيها عنهم. تبيّن فيما بعد أنّ أحد الجيران قد أبلغ الأجهزة الأمنية أنّ أخاها كان يعمل لصالح المعارضة، وحتى هذا اليوم لا تعرف العائلة إن كان هذا الأمر صحيحاً.

بالطبع كان لهذا الاعتقال التأثير المُبتغى على العائلة والأصدقاء، الذين نأوا بأنفسهم عن الثورة على أمل أن يروه ذات يوم من جديد.

وفقاً لأرقام حديثة، 83 % من السوريين يعيشون الآن تحت خط الفقر، وهذا يعني أنّ 4 من بين كل 5 أشخاص يعانون الجوع، وغير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية. يضع هذا المُعطى سوريا في أعلى مؤشر الفقر العالمي. ويزيد عدد الناس الذين يعيشون في حالة الفقر 10 % مقارنة بزمبابوي، البلد الذي يحتل المرتبة الثانية في قائمة تضم 172 بلداً. أمّا بخصوص أعداد القتلى والجرحى والذين تعرضوا للتعذيب والمنفيين، فمن الصعب تصوّر حصيلة هذه السنوات العشر من النزاع، لكنّ قصص هذا النزاع لا يصعب إيجادها، حتى خارج مناطق العنف المباشر.

تلتزم ليلى بعملين، فهي تقضي 8 ساعات في وظيفتها الحكومية مقابل مرتب شهري يبلغ 15 دولاراً، قبل أن تعمل 8 ساعات أخرى في شركة خاصة للتسويق عبر الإنترنت، وهذا ما يرفع دخلها الشهري الصافي إلى 60 دولاراً. وحتى رغم حجم العمل المضني هذا، تقول: "لا أستطيع تغطية مصاريفي الأساسية. لا أستطيع حتى أن أشتري أرخص الملابس لتحلّ مكان اللباس الذي أخذ يبلى". 

بالكاد يُغطي دخلها تكاليف الطعام، التي أصبحت باهظة بفضل العملة التي تهوي قيمتها بشكل متسارع والعقوبات والإنتاجية المتدنية بسبب عشرة أعوام من الحرب في المناطق الزراعية، والصادرات غير المشروعة من قِبل قلة فاسدة. عائلة ليلى، التي تعيش على راتبي تقاعد إضافة إلى راتبي ابنتها، تستطيع دفع ثمن اللحم فقط مرة واحدة في الشهر. تقول ليلى: "أصبحت الحياة تقتصر على الأساسيات بالنسبة للجميع".

ليست فقط رتابة يوم العمل الممتد 16 ساعة هو ما تمقته ليلى، وإنما أيضاً حقيقة أنّ العملين اللذين تلتزم بهما هما روتينيان وعاديان، ولهما طابع إداري لا ينطوي على أي مستقبل، وما من مجال يفسحانه لتطوير المسار المهني، ولا وجود لأمل بالترقي الوظيفي، إن أخذنا بالاعتبار الفساد الذي كان مستفحلاً في سوريا حتى قبل بدء النزاع، لكنه الآن أسوأ. رئيس ليلى في العمل لا يحمل حتى شهادة إعدادية، مع ذلك مكانته الوظيفية أعلى من مكانتها بسبب أحد معارفه. تحكي لي ليلى عن أصدقاء لها استطاعوا النجاح في تعليمهم عن طريق دفع المال لأساتذتهم في الجامعة.

بطريقة مماثلة تماماً، سُدّت الأبواب في وجه إحدى بنات العم التي كانت أصغر سناً من ليلى. كان والد ابنة العم تلك يعمل في التلفزيون فيما مضى، ومنذ يفاعتها كانت تريد أن تكون مخرجة سينمائية أو تلفزيونية. كانت في الصف التاسع عندما بدأت الثورة، وهذه سنة دراسية هامة لأنّ نتائجها تحدد نوع المدرسة الثانوية التي يحق للطلاب الدراسة فيها. كانت الفتاة تعيش في مدينة مضايا التي تعرضت لقصف عنيف، لكنها مع ذلك أبلت بلاءً حسناً في دراستها، وشعرت أنّ أحلامها ما زالت ممكنة. تخرّجت من الجامعة ودرست مدة سنتين في المعهد العالي للفنون المسرحية، لكن بالطبع لم تسعفها هذه الحصيلة الدراسية في حصاد شيء يُذكر، لأنه في سوريا لا توجد فُرص وظيفية مرموقة خارج القنوات الحكومية؛ إنّ فرصاً من هذا النوع هي حكر لمن لهم صلات بأشخاص متنفذين.

نظراً للحرمان الشديد الذي يُعانيه قسم كبير من السكان، ليس من المدهش التحويل المفرط للحياة إلى سلعة. وفقاً لما تقول ليلى، التبادل السلعي هو معيار أي شيء، من الاحتياجات الطبيّة حتى الحذاء. وكما في ظروف كهذه عبر التاريخ، تستخدم نساء أجسادهنّ مقابل ضروريات الحياة، إن كان الأمر مع الرجل المناسب، حتى مقابل بعض الكماليات كالملابس وأشياء الزينة الشخصية. "أصدقاء يُجنى منهم منافع"، هكذا تصف ليلى هذه الصفقات. في الطرف المقابل لهذه العلاقات، هناك الرجال الذين يعوزهم المال للزواج والإنفاق على أسرة، لذا يبحثون عن علاقات حرّة، وفقاً لما تدّعي ليلى. "معظم الشباب في الوقت الراهن لديهم أفكار محدودة: الجنس، الطعام، النوم. بغياب الأمل بإيجاد عمل لا يستطيعون بناء أسرة، لذا يبحثون عن الجنس الحر دون مشاعر. لا أستطيع بناء علاقة من هذا النوع".

وبالطبع، هناك عدد من الشبان أقل من عدد الشابات، فعدد كبير منهم قضوا نحبهم وهم يقاتلون، وآخرون اختفوا في سجون الأسد، وإن أتيح لعائلة تدبّر أمر المال لتدفع لمهرّب لقاء أن يصل شخص واحد إلى أوروبا، سيختارون الابن وليس البنت، معتبرين الابن ذو حظ أوفر بالنجاح وأقل استضعافاً في وجه الاستغلال والعنف في طريق السفر. هذا الواقع دفع بالسوريين تدريجياً إلى كسر الأعراف الاجتماعية مثل الزواج بين أفراد من طوائف مختلفة؛ إحدى بنات عمّ ليلى كسرت هذا المعيار. "بالأمس القريب حصلت خطوبة ابنة عمي البالغة من العمر 26 عاماً من هذا الرجل، 43 عاماً. والداها ينتميان إلى المذهب السُني وليسا متشددين، لكن كونها مخطوبة لرجل علوي شكّل نوعاً من المفاجأة". لم يكن والدها شديد الابتهاج من هذه الأخبار، لذا كان عليها أن تُدافع عن موقفها. "كانت حجتها، ’إنني أتقدّم في العمر، وما من رجل سني تقدّم لخطبتي‘. هذه الحُجّة أجبرت والدها أن يوافق على الخطوبة".

لكن بالنسبة لنساء أخريات، ليس الأمر بهذه السهولة. دينا شابة علويّة من عائلة بارزة موالية للنظام، كانت تعيش في دمشق وتعمل بدوام كامل عندما بدأت تواعد شاباً سنياً تعرّفت عليه في مكان عملها. عندما أخبرت والدها بالأمر طردها من المنزل وهو يقول لها إنه يفضّل أن يقتلها على أن يراها تتزوج من شاب سنيّ. عوضاً عن المخاطرة بحياتها، تركت دينا صديقها وهربت من البلاد، وبنت حياتها من جديد، لكن هذا امتياز ليس مُتاحاً لمعظم السوريين؛ سبق وأن حظيت دينا بجنسية ثانية عن طريق والدتها، وهذا ما أتاح لها أن تتحرك دون أن تمر بمرحلة عملية طلب اللجوء السياسي أو السفر كلاجئة.

هذا ما يتوق له كثير من السوريين. "بالإمكان وصف حياتي بأنها مجمّدة. فحياتي شأن حياة السجين، قد توقف كل شيء فيها إلى أن أتمكّن من السفر"، تقول ليلى، التي ترى كل أحلامها – سواء في العمل، أو التعليم، أو الحب – قابلة للتحقق فقط خارج البلاد. أسأل ليلى أيّ بلد تودّ أن تُعيد بناء حياتها فيه. "أظنّ أن كندا هي الأفضل" ترد ليلى، ثم بسرعة تتابع قائلة، "لكن أي بلد لا يوجد فيه فساد ورشاوى".

صديقتها نادية لديها نفس الطموح، لكنها لم تعد متأكدة أنها تستطيع أن تستمتع بما تريده. "ما زالت آمالي هي ذاتها –دائماً كنت أريد أن أجوب العالم وأشاهد صروحاً معمارية جديدة، وأن أتذوق طعاماً جديداً وأتكلّم مع أشخاص جدد، وأن أعيش مع طبيعة الخالق– لكني لست نفس الشخص، فقلبي انكسر".

ليلى ونادية، كلتاهما فقدتا أصدقاء استطاعوا مغادرة البلاد، وكلتاهما تكافحان لبناء صداقات أو علاقات مع الرجال. تقول ليلى: "فقدان الثقة بالآخرين في هذا الزمن أصبح سائداً". هذا أمر يمكن تفهّمه إن أخذنا بالاعتبار دور جارهم باعتقال أخيها.

كانت ياسمين، أخت ليلى، تعمل فيما مضى في إحدى السفارات الأوروبية في دمشق، قبل أن تصبح الدبلوماسية أيضاً ضحيّة للحرب، وتختفي السفارات إلى جانب كثير من الأمور الأخرى. ترى ياسمين أنّ التاريخ يكرر نفسه: "كنت أرى صفوفاً من الرجال العراقيين يحاولون الوصول إلى بلدان أخرى، سواء لتجنّب الخدمة العسكرية أو لإيصال عائلاتهم إلى مكان أكثر أماناً".

بالفعل التاريخ يُعيد نفسه، وليس فقط النزاع العراقي الطويل والعنيف. وغالباً ما وجدت النسوة فرصاً في أسواق العمل أثناء الحروب. تقول ليلى: "ما من مستقبل طيب في سوريا طالما أننا نعيش وسط هذا الفساد. ينتقل الوضع من سيء إلى أسوأ، وما من فرصة لأن يتحسن بالنسبة للناس العاديين".

أنا مقرّبة من هذه العائلة، فقد أقمت في منزلهم الواقع في ضواحي دمشق. لذا فالشقيقتان تتكلمان بحريّة معي، لكن حتى لغة ليلى تفضح الخوف الطاغي. تتحدث ليلى عن "الأزمة" عوضاً عن الثورة، وهي كلمة لا يستخدمها أولئك الذين لا يزالون داخل البلاد ولا أولئك المساندون لنظام الأسد؛ والأجوبة على أسئلتي من نساء لا أعرفهن مختلفة جداً، وتعكس القلق العميق للعيش في بلد برهن فيه الأسد أنه سيفعل أي شيء ليحافظ على سيطرته. عندما أسأل عن المستقبل تكون أجوبتهنّ محترسة بشكل متأنٍ: "آمل أن يصبح الوضع هادئاً"، أو "أود لو تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل"، لكن حتى في هذه الأجوبة الأكثر أماناً، غياب المستقبل واضح، مع أنّ ليلى تطرح الأمر بقوة كبيرة: "كل أحلامنا قد تحطّمت.
نحن نعيش يوماً بيوم، مع عدم وجود شيء نصبو إليه، أما المستقبل فأراه قاتماً ومحزناً". لقد تلاشى كل أمل في مستقبلهنّ الشخصي جنباً إلى جنب مع تلاشي الأمل بتحقيق غايات الثورة ذاتها.