ما فعلته الـ CIA في أفغانستان المُحتلة من قِبل السوفييت وما (لم تفعله) (٢ من ٢)

مقاتلو المجاهدين في ولاية كونار بأفغانستان - 1987

عمران فيروز
26 نيسان 2021 عن موقع  NEWLINES
ترجمة مأمون حلبي

غزا السوفييت أفغانستان عشية عيد الميلاد 1979، وقُتِل حفيظ الله أمين من قِبل القوات الخاصة السوفيتية، في حين نُصِّب بابراك كارمال من جناح بارشام كحاكم ألعوبة بيد موسكو؛ جرت الأحداث على عكس الاعتقاد الشائع والمعاصر الذي يرى أنّ تورط الـ CIA استجرّ الغزو.

وفقاً لبعض المصادر، بدأت حكومة الولايات المتحدة مساعدة المتمردين المجاهدين قبل الغزو السوفيتي ببضعة شهور، مع ذلك كان التدخل العسكري السوفيتي نتيجة مباشرة لتصرفات النظام الشيوعي الحليف في كابول، الذي هددت وحشيته الرهيبة بزعزعة الحكم الشيوعي في كابول، وتسببت بمشكلات على امتداد الحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي المعرضة لاضطرابات محتملة.

لم يكن الغزو السوفيتي مرتبطاً بالمتمردين بأي شكل. للإنصاف، ليس كل الأفغان المنضوين في حزب الشعب الديمقراطي كانوا مع الانقلاب ضد حكم داود خان، بعضهم على الأرجح لم يتخيلوا غزواً عسكرياً من قِبل السوفييت.

كل هذه الأحداث دفعت بكثير من الأفغان للارتماء بأحضان جماعات المجاهدين الذين نظموا أنفسهم بشكل أساسي في مخيمات اللاجئين في باكستان المجاورة، كان هؤلاء المجاهدون قد سدوا فراغاً سياسياً ناتجاً عن عمليات القتل الجماعية لشرائح المثقفين الأفغان على يد النظام الشيوعي، مع ذلك هنا يصبح واضحاً "الخطأ" المستفز للأعصاب الذي يرتكبه كثير من المراقبين.

لم تكن هذه الجماعات الجهادية متحدة، وتبنت إيديولوجيات مختلفة تشمل كل الطيف الإسلامي؛ لا أحد من هذه الجماعات كان له أي ارتباط بتنظيم القاعدة، الذي تشكل في وقت متأخر جداً على يد مجموعة راديكالية متفرعة عن ما يُسمى العرب الأفغان؛ هؤلاء العرب الأفغان كانوا من أتباع القائد الإسلامي الفلسطيني والمؤدلِج عبد الله عزام، الذي أسس مكتب الخدمات عام 1984 في بيشاور. انضم أسامة بن لادن للحرب في وقت لاحق، وهو أبداً لم يحظَ بأسلحة أو تدريب بشكل مباشر من الـ CIA.

تلقى المجاهدون الدعم من تشكيلة من البلدان المختلفة، مع ذلك تم تضخيم حجم هذا الدعم بدرجة كبيرة. في عام 1980 قدّمت إدارة الرئيس كارتر 30 مليون دولار كمساعدة للمجاهدين، وأثناء فترة حكم الرئيس ريغان ارتفع الدعم المالي الأمريكي إلى 630 مليون دولار عام 1987، أثناء هذه السنوات قُتِل مئات الآلاف من الأفغان لأنّ المجاهدين قاتلوا لسنوات دون أي دعم ذي قيمة على الأرض.

وكما يتذكر الكثيرون من المشاركين الأفغان في الحرب، مبالغ كبيرة من المساعدات المالية كانت تذهب مباشرة إلى جيوب قادتهم عوضاً عن استثمارها لتحرير البلاد من الاحتلال السوفيتي. كان المجاهدون يخسرون حرباً استخدم فيها المضطِهدون، الغزاة السوفييت وحلفاؤهم الشيوعيون الأفغان، الأساليب الأشد همجية ليمسحوا قرىً بكاملها، ويثنوا أكبر عدد ممكن من الناس عن الانضمام إلى المعارضة عن طريق حملة من التعذيب وعمليات القتل الجماعية.

هكذا كان حال المجاهدين، في حين كان تحت تصرف النظام الأفغاني ليس فقط مليارات الدولارات، وإنما أيضاً آلة عسكرية كانت الأكثر تطوراً في ذلك الوقت.

سواء تدخلت الـ CIA أو لم تتدخل، كانت الحرب السوفيتية في أفغانستان حرباً إبادية، فوفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة يعود لعام 1986، قُتِل 33 ألف مدني أفغاني بين كانون الثاني وأيلول عام 1985، وكانت الأغلبية الساحقة من هذا العدد قد هلكت على أيدي الجيش السوفيتي وحلفائه الشيوعيين. وقد بيّن التقرير أنّ المتمردين قد قتلوا مئات من المدنيين أيضاً، لكن هذا لا يُقارن بمستوى العنف السوفيتي المنظم والمتطور الذي قتل عشرات الآلاف، ويُشدّد التقرير على حقيقة أنّ النظام الشيوعي وداعميه كانت لديهم استراتيجية ممنهجة بتعذيب المدنيين وعمليات القتل الجماعي بحقهم.

بالطبع كانت هذه الفظائع المشينة هي ما دفع بشرائح واسعة من المجتمع الأفغاني إلى التطرّف، وليس توزيع الكتب المدرسية التي تشجّع على الجهاد المسلّح عن طريق برامج تعليمية ممولة أمريكياً في مخيمات اللجوء الباكستانية.

بينما كانت هذه الأحداث تقع، كان اليساريون الغربيون وناشطو السلام المزعومين في صف المحتلين، وبدأت بعض الشخصيات الوازنة تنزع الصفة الإنسانية عن الأفغان. فقد لاحظ الصحفي الأيرلندي الأمريكي الراحل والأيقونة اليسارية ألكسندر كوكبيرن بصفاقة ما يلي عن الأفغان: "جميعنا سنموت ذات يوم، لكن أرجو من الله ألا يكون موتي في أفغانستان. تعجز الكلمات عن وصف رداءة هذا البلد الذي يعج ببشر لا يمكن وصفهم، مهربين وناكحي أغنام. لست أقل من الآخرين في تعاطفي مع أولئك المنبطحين تحت الجزمة الروسية، لكن لو وُجِد بلد قط يستحق التدمير فهذا البلد هو أفغانستان، لا شيء فيه سوى جبال ممتلئة بأقوام همجية تنتمي بتفكيرها إلى القرون الوسطى كما هو حال بنادقها البدائية".

أدى الاحتلال الذي دام عشر سنوات إلى موت 2 مليون أفغاني، ويبقى المجتمع الأفغاني تحت وطأة الرضوض النفسية الناتجة عن فظاعات هذه الحرب، وهذا ما قد يفسر أيضاً لماذا لن يحظى أي حزب يساري الميول بأي فرصة في حال حصول انتخابات ديمقراطية نزيهة، على الأقل لعدة عقود أخرى قادمة؛ حزب من هذا النوع سيكون -بكل بساطة- مرتبطاً في أذهان الناس بجرائم حزب الشعب الأفغاني، الذي أبداً لم يُسّمِّ نفسه "شيوعياً" في مجتمع إسلامي بدرجة كبيرة، وفضّل وصف نفسه أنه "اشتراكي" أو "يساري".

صواريخ ستينغر الأمريكية كانت مجرد جزء صغير من الحكاية الأفغانية الأكبر، لكن هذه الصواريخ أصبحت حاسمة في إنقاذ حياة الناس. بالنسبة للبعض، ربما قد كان الأمر مفاجئاً أنّ الحوامات السوفيتية التي دمّرت قرىً بكاملها وقنوات الري ومساحات واسعة من الأراضي الزراعية وألحقت دماراً كبيراً بآلاف الأفغان، هذه الحوامات لم يكن بالإمكان هزيمتها من خلال الاحتجاجات السلمية أو الحراك السياسي الخالص.

آلات قتل من هذا النوع يجب أن تُدمّر من أجل إنقاذ أرواح العائلات.

طيلة سنوات كان المجاهدون يبحثون عن طريقة يدمرون بواسطتها آلات الموت تلك، التي كانت تتبختر على امتداد السماء الأفغانية التي كانت فيما مضى تنعم بالهدوء؛ كانت تلك الآلات تستهدف وتقتل المجاهدين والمدنيين على حد سواء. كان العالم ومن ضمنه حلفاء المجاهدين المزعومين، يتفرج على ما يجري.

واشنطن التي ضخت ملايين الدولارات دعماً للمتمردين، أضحت متعبة من الحرب. خطة بريجينسكي المزعومة، والتي كثيراً ما كانت توصف فيما بعد بأنها الفخ الأفغاني لخلق تجربة فيتنامية للسوفييت، كانت أسطورة أكثر من كونها واقعاً. يقول عبد القادر مومنت، وهو جندي أمريكي من أصول أفغانية قاتل في صفوف المجاهدين في ثمانينيات القرن الماضي: "قلة من السياسيين أظهروا إرادة حقيقية لمساعدتنا".

بعد مجيء نور طرقي إلى السلطة هرب مومنت إلى الولايات المتحدة، وبدأ التنظيم ضد الحرب في بلده الأم؛ كان يرتّب معالجات طبية لضحايا الحرب، وأثناء عطلته كان يسافر إلى أفغانستان للقتال ضد السوفييت وحلفائهم.

في منتصف الثمانينيات حاول مومنت وبعض الأفغان الآخرين إقناع إدارة ريغان بضرورة تزويد المجاهدين بالأسلحة المضادة للطيران. قال لي مومنت: "نحن لم نحدد ستينغر بالاسم، بل حتى لم نكن نعرف هذه الأنواع. في الحقيقة كنا فقط نريد شيئاً يُسقط تلك الحوامات الروسية كي نحمي قرانا". وفقاً لمومنت وعسكريين آخرين شاركوا في حرب تلك الحقبة، بدأت الولايات المتحدة تسليم صواريخ ستينغر بعد أن لاحظت أنّ المتمردين كانوا يمتلكون إرادة القتال، وهذا ما تجلى من جديد في منتصف الثمانينات أثناء معركة قرب منطقة (تاري منغال).

قال مومنت أنّ المجاهدين الأفغان قد تلقوا بين 1986 و 1989 ما مجموعه 500 صاروخ ستينغر من الولايات المتحدة. مصادر أخرى تدّعي أنّ العدد كان أعلى بكثير، وتشير أنّ 2000 إلى 2500 صاروخ قد وصلت للمتمردين الأفغان.

بعد سنوات من انسحاب السوفييت من أفغانستان وانحدار البلاد إلى حرب أهلية تتحكم بها بعض فصائل المجاهدين الكبيرة، لكن ليس كلها، واصطفاف الشيوعيين السابقين بشكل انتهازي مع فصائل مختلفة، بدأت الولايات المتحدة حملة استعادة الصواريخ؛ لقد أظهر الأمريكيون اهتماماً بالصواريخ أكثر من اهتمامهم بمصير الشعب الأفغاني.

من منظور أفغاني من الصحيح أنه أبداً لم يكن للأمريكان اهتمام حقيقي بالمعاناة الأفغانية، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لكانوا قد أبدوا اهتماماً أكبر بكثير بالأحداث التي جرت بعد سقوط "الستارة الحديدة"، أو لكانوا قد ساندوا الشعب الأفغاني في المرحلة المبكرة من الحرب عوضاً عن مساندتهم التي أتت في أواخر الثمانينات.

كان للحرب الباردة منطقها، وأثناءها وجدت الولايات المتحدة نفسها تصطف إلى جانب المجاهدين. مع ذلك على المرء أن يتخيل كيف كان شعور الفلاحين الأفغان بعد تلقيهم أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم، هؤلاء الفلاحين الذين حمل كثير منهم السلاح ببساطة لأنّ قراهم كانت تُدّك من قِبل "الجيش الأحمر". إن جدول أعمال بخصوص الجانب الإنساني لشعب كالشعب الأفغاني غالباً ما يتجاهله التحليل الجيوبوليتيكي البارد.