‏اللحظات الأخيرة قبل الخروج من «دولة الخلافة»

ثلاث سنوات مرت على خروجه من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، لكن ذلك لم يزحزح اللحظات الأخيرة من ذاكرته؛ مازالت حتى الآن ضاغطة تريد أن تُروى بشكل أو بآخر، وكأن هذا ما قامت به ذكرى تلك اللحظات عندما التقى بالكاتب، أفرغت فحسب نفسها أمامه لينقلها بدوره لعين المدينة. 

كانت السماء تميل للغروب عصر ذلك اليوم الخريفي عندما وصلنا مدينة الباب بريف حلب، هكذا بدأ محدثي كلامه. حسب ما أخبرونا هناك، فإنه بقي ساعة واحدة على إيقاف الخروج من حاجز أم حوش، آخر مناطق سيطرة داعش بالقرب من مدينة أعزاز، تبدأ بعدها مناطق سيطرة الجيش الحر. هذا الحاجز ليس ثابتاً، فكما علمنا فإن داعش تقدمت مئات الأمتار، وهو ما أخبرنا به مرافقنا لاحقاً حين قال لنا إنه منذ أسبوع سيطرت داعش على كل هذه المناطق، وفيها قامت بقطع رؤوس عدد من عناصر الجيش الحر الذين أسرتهم..

أسرع سائق السيارة التي تقلنا لنصل قبل إقفال الحاجز؛ قبيل الحاجز الذي يبعد عن الباب عدة كيلومترات استوقفتنا سيارة الحسبة، وبعد السؤال عن توجهنا أخبرونا بأن الحاجز أقفل اليوم، وأننا نحتاج لورقة مرور من حسبة منبج حتى نستطيع عبوره. عبور الحاجز صار حلماً بعد مرورنا على ما يقرب العشرين حاجز منذ خروجنا من مدينة البوكمال.

عدنا أدراجنا إلى مدينة الباب حيث توزعنا إلى منطقتين، فنام الرجال في ما يسمى بمضافة الباب، وهي كراج سابق للسيارات تحول إلى منامة -حسب ما رأيت، وقسم آخر استأجر منزل عبارة عن غرفة وملحقاتها بخمسة آلاف ليرة لليلة واحدة. العشاء لعدة أشخاص من أحد المطاعم آنذاك كلف عشرة آلاف ليرة. كانت المدينة تغص بالمقاتلين، أغلبهم يتكلم لغة غير العربية، يملأون المطاعم والمحلات، وسياراتهم تسير في الطرقات تحمل شارة داعش السوداء؛ لم تكن المدينة تشبه مدننا سابقاً، فوجهها مختلف ولسانها مختلف.

صباحاً اتجهنا إلى منبج للحصول على ورقة مرور، لم يكن الأمر سهلاً، هذا ما أدركناه حال وصولنا، فطوابير المنتظرين تبلغ عشرات الأمتار، بعضهم أمضى ثلاثة أيام ينام على الرصيف حتى لا يفقد دوره. 

كان الدور موزعاً إلى قسمين، قسم للرجال وآخر للنساء، في نهايتهما يتم سؤالك عن سبب سفرك إلى تركيا، وعليك أن تعطي سبباً مقنعاً وإلا فمصيرك الرفض. عناصر الحسبة الذين يطوفون في المكان متعددو اللغات والمنابت، لكن من ينظم الدور هم عناصر محلية؛ عرفت ذلك من حديثهم فقط، فهم يخفون وجوههم خلف الأقنعة..

تحت حكم الواقع توزعنا أنا وزوجتي في طابورين، يبدأ طابور الرجال عند مدخل إحدى البنايات حيث مقر الحسبة وينتهي على أطراف الحديقة المقابلة حيث قمنا بركن السيارة؛ كنا ثلاث عائلات خرجنا سوية من البوكمال غايتنا تركيا.. طابور النساء كان أقل عدداً ويسيره رجل واحد.

كانت الساعة السابعة صباحاً عند وصولنا، وبعد انتظار استمر لما يقارب الست ساعات حان موعد صلاة الظهر حيث أغلق كل شيء وتوجه الجميع لأداء الصلاة. في الطريق إلى المسجد تحدث إلينا أحد الواقفين منذ أيام في الطابور بأن أفضل طريقة للحصول على موافقة العبور هي تقرير طبي، سألته عن الطريقة فقال لي "تأخذ تقرير طبي  من طبيب وتذهب لتوقيعه في مشفى منبج، ومن ثم توقعه من اللجنة الطبية لتوافق عليه الحسبة وتعطيك إذن العبور".

ما إن انتهت الصلاة حتى أخذت ابنتي التي أجريت لها عملاً جراحياً في قدميها من قبل، وقصدت منطقة العيادات حيث دخلت إحدى عيادات العظمية؛ كان الطبيب متعاطفاً جداً، أظهر حنقه على داعش عندما شعر بالأمان أمامي. توجهت وزوجتي إلى مشفى منبج وبيدي التقرير، لكني انتظرت مع أولادي خارجاً لأن الدور مخصص للنساء فقط. 

قبيل صلاة العصر خرجت زوجتي وقد حصلت على توقيع المشفى، لكن صلاة العصر قد حان موعدها فأغلق الجميع. بعد العودة من الصلاة ذهبنا إلى مكان اللجنة، كان عبارة عن محل صغير يجلس أمامه شاب يرتدي لباس داعش المميز والمسمى محلياً بالباكستانية، ويحمل سلاحه على كتفه وختم اللجنة بيده، فيما يقف الناس في طوابير. يفحص الشاب الجميع شفهياً، وعليك أن تقنعه للحصول على الختم؛ تحدثت معه بلغة طبية أتقنها، فنجحت بما فشل فيه رفيقاي. 

انطلقنا بسرعة للحصول على موافقة الحسبة حتى نصل الحاجز قبل أن يقفل ونضطر أن نقضي ليلة أخرى فوق أربعة أيام مضت حتى اللحظة منذ غادرنا مدينة البوكمال.. بالفعل خلال ساعة استطعنا الحصول على توقيع الحسبة وموافقة العبور، كنا كمن حصل على جائزة كبرى، فورقة العبور أصبحت في جيبنا؛ ودعنا رفقاء السفر الذين لم يحالفهم الحظ وسوف ينتظرون يوماً آخر ومحاولة أخرى، فيما أسرعت بنا السيارة إلى حاجز أم حوش حيث نحتاج ما يقارب ثلاثة أرباع الساعة للوصول..

وصلنا الحاجز قبيل إغلاقه بنصف ساعة، لكن المفاجأة كانت فوق تصورنا: رتل من السيارات على جانبي الطريق يصل طوله إلى أكثر من كيلومترين، ما يعني استحالة العبور هذا اليوم، لكن ورقة العبور تنتهي بعد مرور ثلاثة أيام على إصدارها، وهذا يعني مغامرة جديدة للحصول على أخرى في حال فشلنا في العبور. حاول سائق السيارة التقدم لكن عبثاً؛ بدأت السيارات بإطفاء محركاتها، يعني أن الحاجز تم إغلاقه، وعلينا الانتظار للصباح تحت تهديد حدوث اشتباك بين الجيش الحر وداعش..

بعد التشاور قررنا العودة أدراجنا علّنا نجد مكاناً ننام فيه، فالأطفال بلغ بهم التعب والجوع أقصاهما. سرنا نحو خمسة كيلومترات عائدين حين صادفنا محلاً صغيراً يصنع صاحبه (سندويشات) ويبيع العصائر والبسكويت. بعد استراحة تناولنا فيها الطعام سألنا صاحب المحل عن مكان ننام فيه فأخبرنا بأن المنطقة شبه مهجورة، لكننا ربما نستطيع النوم في مسجد قريب.

كانت الساعة قد بلغت التاسعة ليلاً والطقس بدأ يبرد، ما أن توقفنا بالقرب من المسجد -والذي كان مغلقاً- حتى خرج إلينا رجل عجوز ليخبرنا بأن التنظيم منع النوم فيه، لكنه حين شاهد الأطفال تعاطف معنا، واصطحبنا إلى غرفة طينية صغيرة قال إنه يستخدمها لنفسه أحياناً وأنها تصلح للنوم. تخلينا عن حذرنا وخوفنا بسبب التعب والإرهاق الذي أصابنا، ثم أن احتفاء الرجل وزوجته بنا أزال كل مواطن الخوف؛ ضيفونا الشاي ورحبوا بنا، لكنا استسلمنا سريعاً للنوم.. 

في الساعة الخامسة صباحاً اتجهنا للحاجز، كان رتل الشاحنات وسيارات السفر طويلاً وهي متوقفة على جانبي الطريق، حاول السائق تجاوز بعضها عند تحركها للاقتراب، وبالفعل أصبحنا في مكان يجعلنا نرى الحاجز.
هناك من استثمر في المنطقة بسرعة وكأنها ليست مكاناً للعبور والانتظار، وقد تتحول إلى ساحة لمعركة مفاجئة فيما إذا حدث أي تطور؛ على جانبي الطريق انتشر باعة للكعك والسحلب والسندويش والخبز، وبعض الخضار يحضرها أصحاب السيارات القادمة من أعزاز باتجاه الباب أو بالعكس.

فجأة حدثت مشكلة ما، تلاها هرج ومرج، ثم وصلت سيارة من تلك التي يستخدمها قادة داعش، نزل منها شاب ملتحٍ راح يطلق النار من مسدسه في الهواء، فيما مرافقه يحمل عصاً يضرب بها البعض من أصحاب الدراجات النارية المخالفة. 

تحتاج المسافة التي تصل إلى كيلو متر واحد الى ساعات لعبورها بسبب السير الذي يشبه سير السلحفاة، وسط تشديد من عناصر التنظيم، الكيلومتر الأخير لتترك خلفك وطناً وذكريات ورائحة موت وعذاب. كان السير باتجاهين: السيارات العابرة إلى أعزاز، والقادمة إلى الباب، فقد كان الاتفاق ينص على السماح بعبور الناس والبضائع. 

قذيفة انطلقت من جانب الجيش الحر جعلت عناصر الحاجز يستنفرون، والأحاديث بين المنتظرين تنتشر، هناك من نزل من السيارات محاولاً المتابعة سيراً على الأقدام، فقد توقف السير لساعات حتى تم عقد اتفاق جديد، ثم توقف السير مرة أخرى حين أقام أحد عناصر الحاجز الصلاة ليصلي بالجميع بالقرب من الحاجز.

كنت أمسك موافقة العبور بيدي وكأنني أخشى عليها من الضياع في كل متر نتقدمه ببطء وحذر؛ أمتار قليلة باتت تفصلنا عن الحاجز، ودقائق عن صلاة العصر، ما يعني أننا سنتوقف من جديد، لكن أمراً مفاجئاً حصل جعل السيارات تتحرك بسرعة غير معهودة. عندما اقتربنا من الحاجز كان عنصر واحد يقف ليشير للسيارات بالعبور دون حتى النظر لأوراقهم أو موافقاتهم، لكن الصدمة كانت حين نظرنا يميناً إلى جانب الحاجز؛ كان عناصره يلهون برأس شخص. 

أمتار قليلة وصرنا خارج حدود "دولة الخلافة" على حاجز الجيش الحر، حيث تنفسنا الصعداء حين رحبوا بنا وأخبرونا أن الرأس لأحد مقاتليهم وقد أسره الدواعش ليلة أمس.