مواطن الدرجة الأولى... من لهجة الرفيق إلى لهجة الشيخ

تعجّ مدينة دير الزور بالمظاهر البصرية والسمعية لسيطرة تنظيم الدولة، كاللباس الباكستانيّ واللحية والشعر الطويلين، واللهجات العربية المتعدّدة التي تحاول تقليد اللغة الفصحى.

سعى عناصر التنظيم، الشرعيون والعسكريون والأمنيّون والإداريون، إلى تلوين المناطق التي سيطروا عليها بألوانهم، لكن بعض سكان تلك المناطق لم يتقبّل ذلك فحسب، بل ذهب إلى استيحاء الألوان الأكثر التصاقاً بأولئك العناصر. يتحدّث أبو مهيدي، وهو فلاحٌ من ريف دير الزور، عن ابن عمه المبايع الذي كنّى نفسه بأبي عبد الله التونسي، ولم تنجح محاولات أقاربه لإقناعه بخطئه. كما يفيد الكثيرون أن "ولد البلد صارو يسمّون حالهم أبو فلان الجزراوي أو المصري أو العراقي أو التونسي"، ويعمدون إلى تقليد المهاجرين، باستعمال لهجةٍ ملتبسةٍ يصعب ردّها إلى مكان معين، يحرص المتكلم بها على نثر جملٍ موهِمةٍ مثل (لا يجوز، اتق الله، سبحان الله، يا أخي...) وغيرها مما يكثر في كلام المهاجرين، الذين اضطرّ كلٌّ منهم، بدوره، إلى تعديل لهجته والتخلي عن محليتها لصالح لهجةٍ يفهمها الجميع إلى حدٍّ ما، باستثناء المهاجرين من خارج الوطن العربيّ، الذين يعيشون منكفئين في تجمعاتٍ قريبةٍ من خطوط النار، وتقتصر معرفتهم باللغة العربية على بعض الكلمات التي يلتقطونها من "الإخوة".

ويأتي انتحال بعض الأهالي للكنة التنظيم بهدف تسهيل عمليات البيع والشراء، أو فرض الآراء والاحترام، أو الإمامة في الصلاة، أو النصب والتشبيح، كما يفيد أحد أصحاب المحلات التجارية. ويعزوه محمد، وهو معلم مدرسة، إلى المكانة التي يتمتع بها المهاجرون –العرب خاصّةً-، والصلاحيات والامتيازات الواسعة التي يمتلكونها بين عناصر التنظيم أنفسهم، مما جعلهم في موقعٍ يحسدهم عليه الكثيرون، من داخل التنظيم وخارجه. وبحسب أحمد، تشبه هذه الحالة ما أصاب حزب البعث بعد سيطرة العلويين عليه، ما دفع أحد أعضائه البارزين في الستينيات –سامي الجندي– لأن يكتب: "طغت في دمشق القاف المقلقة في شوارعها ومقاهيها وغرف الانتظار في الوزارات". وإذا كانت النكتة قد تناولت، في الماضي الأسديّ، ذلك العسكريّ الديريّ الذي يشدّد على حرف القاف في كلامه، وهو يدّعي أنه من شرق القرداحة بـ500 كم؛ فإن النكتة اليوم تتناول "مهاجراً" من جديد عكيدات –القرية التي ينتمي إليها الأمير المحليّ عامر الرفدان– أو غيرها، يجمع ويقصر في الصلاة، ويحاول تكلم اللغة الفصحى ممزوجةً بلهجةٍ عراقيةٍ قريبةٍ من لهجة ريف دير الزور.

وقد بدأت هذه الظاهرة في وقتٍ مبكرٍ من عمر التنظيم، فقد كنّى قائد حملته للسيطرة على دير الزور نفسه بأبي سعد الجزراوي، وهو القائد السابق في جبهة النصرة أبو دجانة القزبير من قرية جديد عكيدات. ويلاحظ ناشطٌ إعلاميٌّ أنّ الدائرة التي تحيط بأحد المهاجرين تحاول التحدث إليه بلهجته، كما يفعل إعلاميو التنظيم السوريون في المدينة حين يتكلمون اللهجة المصرية تماشياً مع أمير الاعلام في الولاية أبو أنس المصريّ. كما قد يعمد البعض إلى تقليد لهجة المهاجرين بقصد تسهيل التواصل والتفاهم، أو للمزاح، أو للسخرية والتهكم، مما يدفع هؤلاء المهاجرين إلى استعمال السلطة لوضع حدٍّ لذلك في بعض الأحيان.

وفي مقابل هذه الظاهرة التي يحاول فيها المحكومون التماهي مع الحاكم، وإنتاج استبداد الأقلية المعتمد على الضحية ذاتها، والتي -كما يرى البعض- يبدو المهمّشون في أهم مفاصلها؛ تبرز محاولات بعض المهاجرين التماهي بالبيئة الاجتماعية التي توطنوا فيها بتقليد لهجتها، مكرّرين كلماتٍ وجملاً دارجةً مثل (شكون، شكاري، من أيّ الاعمام؟ شاوي ولا ديري؟...) وغيرها مما يكثر في كلام الأهالي. مما دفع بعض السكان إلى التمييز بين المهاجرين (القادمين لله) الذين يهمّهم شعور الناس تجاههم، والمهاجرين (المرتزقة) القادمين لجمع المال أو للتمتع بالسلطة، والذين يسعدهم التملق لهم بتقليد هيئتهم، وأهمها لهجة (الإخوة) التي ما تزال في طور التكوّن، رغم أنها تسيطر على مظاهر السلطة السمعية.