مواطن الدرجة الأولى (3)

ينطلق نحو عبادة الشخصية أم منها؟

بسبب شجارٍ دار بين إعلاميَّين يعملان لدى تنظيم الدولة في مدينة دير الزور، حول مقارنة إخلاص الجيش الحرّ بإخلاص أبو بكر البغداديّ؛ ثارت الكثير من ردود الأفعال الرسمية والشخصية بين عناصر التنظيم في المدينة، مما سلط الضوء على تضخيم صورة البغداديّ من قبل إعلامه وعناصره من جهةٍ، واستعداد هؤلاء -أو حاجتهم؟- لتلقي هذا التضخيم من جهةٍ أخرى.

تتنوّع الأسباب التي تساق لفهم الشجار بين الزبراويّ (من قرية الزُّباري)، وهو إعلاميٌّ عمل مع الجيش الحرّ ثم بايع التنظيم بعد سيطرته على المدينة، وبين أبو عمرو، وهو إعلاميٌّ من اللاذقية مبايع "من زمان". لكن مقرّبين منهما رأوا أنّ السبب الحقيقيّ للشجار يكمن في المنافسة على احتلال مكان الرجل الثاني بعد أمير الإعلاميين أبو أنس المصري.

بدأ الشجار كمشادّةٍ كلاميةٍ اتهم فيها أبو عمرو الجيش الحرّ بالردّة، ليردّ عليه الزبراويّ: "بي عالم من الجيش الحرّ مخلصة مثل البغدادي أو أكثر". صُدم أبو عمرو من تلك الجملة، ثم أبلغ الأمنيين الذين اعتقلوا الزبراويّ. ورأى معارضو التنظيم أنّ صدمة الإعلاميّ من ذلك الكلام، ثم اعتقال الزبراويّ مباشرةً، هي ردّة فعلٍ متوقعةٍ في منطقةٍ عاشت لعقودٍ بين ديكتاتورين (حافظ الأسد وصدام حسين)، وربطت بين حكامها وشعوبها علاقةٌ لا يحكمها أيّ منطقٍ أو قانون، ولذلك ينشط في تلك العلاقة الملكيون أكثر من الملك، خاصّةً وأن سراح الزبراويّ قد أطلق بعد ساعاتٍ من التوقيف دون توجيه أية تهمةٍ إليه. ويدلل معارضو التنظيم على أثر الديكتاتورين الواضح في اللاوعي الجماعيّ للمنطقة بانتشار مقطع فيديو، في وقتٍ سابقٍ، على نطاقٍ واسعٍ، يعرض رجلاً (لقّب بأبي الثوار) يبدأ كلامه أو خطبته بـ"أطلق لها السيف" (قصيدةٌ ألقاها صدام حسين) ثم يكمل بـ"يا أحفاد أبي بكر.." (خطاب حرب 73 لحافظ الأسد). كما أن تساؤل الناس الدائم عن بديلٍ لبشار الاسد (إذ ينتظرون استبدال قائدٍ بقائد) يدعم ذلك الأمر الذي يغيب عن أذهان الكثيرين ممن يحاولون تفسير الانصياع الأعمى لعناصر التنظيم وكأنه بسحر ساحر، لكن الإلمام بـ"الثغرة النفسية" التي سدّها "الخليفة" قد يساعد في التفسير. ولا يعدم المتتبع الدليل على هذا الأمر، فهو يترجم كثيراً في الفضاء الافتراضيّ، عندما يهدّد الأمنيون أو العناصر العاديون أو المؤيدون للتنظيم معارضين له يعيشون في تركيا، سخروا من البغداديّ في وسائل التواصل الاجتماعيّ.

ولم يقف أمر المشادّة عند هذا الحدّ، بل انتقل النقاش إلى المهاجرين. فبحسب مقرّبين منهم رأى بعضهم أنه لا يجوز التكلم عن "الشيخ" بهذا الكلام، ولكن آخرين -خاصّةً من الدول البعيدة عن المنطقة، كالمغاربة- وجدوا في الأمر مادّةً للسخرية، مما جعل بعض من سمعهم من العناصر يستغفر الله عند تعرّضهم لشخصية البغداديّ!

معلومٌ للجميع الجهد الذي تبذله مؤسّستا "الفرقان" و"أجناد"، الإعلاميتين التابعتين للتنظيم، وغيرهما، لتقديم البغداديّ بصورةٍ محاطةٍ بهالةٍ يبدو أنها تلبّي أحلام التابعين أكثر من كونها مفروضةً عليهم، في مشهدٍ يتبادلون فيه الأدوار مع تلك الصورة المهيبة حين يمارسون الاستبداد والغطرسة بحقّ أهالي المناطق التي يسيطرون عليها. وهذا ما سعت إليه أناشيدهم منذ انطلاقتها، كما في "بوبكر يا بغدادي" أو "قوموا جميعاً بايعوا البغدادي"، وتسجيلات خطبه وكلماته التي تسبقها عبارة "مولانا أمير المؤمنين"، فضلاً عن إصداراتهم التي لا تكاد تخلو من مقتطفاتٍ من تلك الخطب.

الجدير بالذكر أنّ ردّة الفعل الأولية لكثيرٍ من شباب المدينة على هذه البروباغندا (تنفخ الشيخ) هي "أكل بحالو مقلب" أو "كذبوا الكذبة وصدقوها". وتعبّر هذه الأوصاف عن إيهام الذات وفرضه على الآخرين، أو الإيمان الساذج والطفوليّ بالنفس والمركز، أو استغباء الناس واستصغارهم ومعاملتهم وكأنهم "طلاب صف خامس"، خاصّةً حين يتعلق الأمر بـ"تحدي أمريكا وأوروبا أو مدّ السيطرة على العالم". بينما راح اسم البغداديّ يظهر في الأحاديث اليومية في معرض الردّ على أسئلةٍ دون جواب، كما في "شكون شايفني البغدادي؟" للتعبير عن العجز والامتعاض والسخرية في الوقت نفسه.

قد لا تكون القوانين (إن كانت هناك قوانين) التي تعمل بها أجهزة التنظيم، أو يحكم قضاته ضمنها، تنصّ على عقوبةٍ بحقّ الذين يتعرّضون للبغداديّ (وهو ما يرجّحه الإفراج عن الزبراويّ، الذي ترك العمل نهائياً إثر ذلك) ولكن قادة التنظيم والممسكين بإستراتيجيته والساهرين على بقائه وتمدّده، والذين عاشوا ينوسون بين ديكتاتورين، يبحثون في "الشيخ" عن ثالث.