من سيرة نفط دير الزور بعد الثورة

جبهة النصرة والنفط (1)

(مادةٌ مأخوذةٌ من دراسةٍ عن النفط في المحافظة، منذ خروجه ومنشآته عن سيطرة النظام وحتى الآن. أعدّها فريقٌ من الباحثين. وتصدر قريباً عن "عين المدينة")

الحصص الأولى لجبهة النصرة من النفط

خلال الربع الأوّل من عام 2013، اكتملت خارطة السيطرة على آبار ومنشآت النفط والغاز في المحافظة، دون أن يكون لجبهة النصرة نصيبٌ سوى محطّة تعبئة الغاز المنزليّ، التي كانت قد استولت عليها منتصف العام الفائت، ونسبة النصف من عائدات ثلاثة آبارٍ للنفط في بادية البوكمال، كان قد استولى عليها لواء عمر المختار، قبل أن يطلب من جبهة النصرة في مدينة البوكمال أن تكون شريكةً له فيها، دفعاً لتهمة الاستئثار بالموارد. بالإضافة الى حصصٍ صغيرةٍ ومؤقتةٍ كانت الجبهة تنجح في حيازتها من بعض الآبار، بعد تدخلها لحلّ شجاراتٍ داميةٍ بين المستولين عليها في معظم الحالات.

تدلّ الحصّة الضئيلة لجبهة النصرة، بالمقارنة مع حجم الثروة النفطية في دير الزور، على درجة قوّتها وحجمها، آنذاك، أمام القوى المختلفة التي استحوذت على الحصّة الأكبر من هذه الثروة. إلا أن أسلوب النصرة في إدارة واستثمار هذه «الحصّة» حقق لها مكاسب معنويةً شديدة الأهمية. فخلال سيطرتها على محطّة تعبئة الغاز المنزليّ، كانت أرباح جبهة النصرة من بيع وتوزيع ألفي أسطوانة غازٍ يومياً، هي متوسّط إنتاج المحطة في ذلك الوقت، بين 400-600 ألف ل. س، أي في حدود 4000-6000 دولارٍ أمريكيٍّ يومياً، بحسب سعر الصرف آنذاك. إذ كانت الجبهة تبيع الأسطوانة الواحدة بـ500 ل. س وسطياً (5 دولارات أمريكية). وهو رقمٌ زهيدٌ، كان يمكن لها أن تضاعفه، إلا أنها أرادت الاستثمار بطريقةٍ دعائيةٍ تظهرها بمظهر المشفق على أحوال السكان المتردية، لتجذب الرأي العامّ إليها، في ظلّ حالة غضبٍ عامّةٍ من فوضى النفط وسوء توزيع موارده. كما نجحت النصرة، من خلال توزيع الغاز، في إلباس ثوب الأهمية لمجموعاتٍ صغيرةٍ وهامشيةٍ تتبع لها، بإلزام مندوبي القرى والبلدات القادمين إلى محطّة التعبئة بالحصول على أذن أمراء هذه المجموعات في كلّ قريةٍ وبلدة. مما زاد من حضور النصرة في الحياة اليومية والعامّة للسكان.

بدايات الهيئة الشرعيّة في المنطقة الشرقيّة

بخلاف ما تردّد حول نية مبطّنةٍ للنصرة بإعلان إمارةٍ في دير الزور، كان للجبهة مشروعٌ آخر، وهو تأسيس هيئةٍ شرعيةٍ تابعةٍ لها، تقود من خلالها الأنشطة العسكرية والمدنية المختلفة. وهو المشروع الذي بدأت تنفيذه في محافظاتٍ أخرى، وجاءت هيئة دير الزور في سياقه، فأعلن عن تأسيس الهيئة الشرعية في المنطقة الشرقية يوم 9/3/2013. وضمّت وقتها كلاً من جبهة النصرة؛ لواء مؤتة؛ لواء الإخلاص؛ لواء القعقاع الإسلاميّ؛ لواء ابن القيم؛ لواء رجال الله؛ كتيبة بيارق النصر؛ كتيبة الرحبة، كفصائل عسكريةٍ تتبع للهيئة وتشكّل قوّتها التنفيذية. وحدّد البيان الأول للهيئة وظيفتها الرئيسية بـ«تسيير شؤون الناس وملء الفراغ الأمنيّ وحلّ قضايا الناس العالقة». ولم يظهر بين المكاتب الستة، التي اعتبرها البيان وسيلة الهيئة لتحقيق أهدافها، مكتبٌ للنفط، رغم أن جبهة النصرة في البوكمال تستحوذ على حصصٍ من آبارٍ، وكذلك تسيطر ثلاثةٌ من الفصائل المنضوية تحت مظلة الهيئة على آبارٍ هامّة.

oill

المكاتب هي: الإصلاح وفضّ النزاعات؛ الدعوة والإرشاد؛ الفتوى؛ القوّة التنفيذية؛ الهيئة الخدمية؛ اللجنة الإغاثية.

بعد شهرٍ تقريباً من تأسيس الهيئة الشرعية، حدث تطوّرٌ كبيرٌ عصف بجبهة النصرة وشلّ هيئتها المشكّلة، إذ أُعلن عن ولادة «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، لينتقل، على الفور، كثيرٌ من مقاتلي الجبهة إلى الجسم الوليد، انتقالاً لا يمكن وصفه في الأيام الأولى بأنه انشقاقٌ، إذ اعتبر، بالنسبة إلى معظم المنتقلين، تطوّراً طبيعياً ونموّاً للفرع نحو الأصل. فيما وقع الباقون من أعضاء النصرة في حيرةٍ من أمرهم بانتظار الكلمة الفصل من زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، إلى أن جاءت بإلغاء المسمّى الجديد وقبول بيعة النصرة. إذ لم يكن كافياً إعلان الجولانيّ أن جبهة النصرة هي الفرع السوريّ لتنظيم القاعدة، وهي التي نشأت من رحم «الدولة الإسلامية في العراق»، قبل أن يبتّ الظواهريّ في الأمر ويعود معظم المنتقلين إلى «الدولة» -في دير الزور على وجه التحديد- إلى فصيلهم الأساس، دون مساءلةٍ تنظيميةٍ . فيما ثبت عامر الرفدان، الذي كان أحد أبرز قادة النصرة، ومعه كتلةٌ وازنةٌ من المهاجرين، وعشراتٌ من أبناء المحافظة، في انتقالهم الذي أضحى انفصالاً كاملاً. ولتنتقل بذلك محطّة تعبئة الغاز المنزليّ، التي كان يديرها الرفدان، في ما انتقل من الممتلكات العينية، إلى الكيان الوليد. الذي ما لبث أن أطلق وصف «الشركية» على هيئة جبهة النصرة، وأسّس «محكمةً إسلاميةً» كمرجعٍ قضائيٍّ وحيدٍ يجب على من له شكوى على «الدولة» أن يعرضها عليه.

وحين استقرّ الجسم التنظيميّ لجبهة النصرة إثر حادثة الانفصال، انطلقت الهيئة الشرعية انطلاقتها الثانية، مستفيدةً من جهود طبيبٍ شابٍّ خارجٍ حديثاً من المعتقل، بعد سنواتٍ في سجن صيدنايا الشهير، هو مظهر الويس، الذي ترأس الهيئة الشرعية في أول الشهر السادس من عام 2013، وأعاد تنظيم العمل في مكاتبها التي لم تنجز، قبل ترؤسه لها، أعمالاً بارزة.

بعد ذلك، وفي ما يخصّ النفط، تحاشت الهيئة الشرعية الاصطدام المباشر بالمستولين على الآبار، لكنها حاولت الحدّ من آثار التلوث الناجمة عن ظاهرة التكرير العشوائيّ والبدائيّ للنفط الخام. فأصدرت عدّة قراراتٍ بهذا الخصوص، كان بينها إنذارٌ لورشات الحدادة بالتوقف عن تصنيع مصافي النفط، أو ما يعرف بـ«الحرّاقات»، وتهديدهم بالمحاسبة في حال عدم استجابتهم. وقرارٌ آخر يلزم كلّ سيارةٍ تنقل النفط بدفع مبلغٍ ماليٍّ عند انتقالها من منطقة الجزيرة –حيث تتركّز آبار النفط الكبرى- إلى الشامية، وعبر جسري العشارة والميادين. وكذلك حاولت الهيئة إبعاد تجمعات التكرير الرئيسية مسافةً عن المدن والبلدات والقرى.

في الشهر التاسع من عام 2013، وقبل إطلاق برنامج السيطرة على مواقع النفط، انضمّت حركة أحرار الشام الإسلامية إلى الهيئة الشرعية، التي تحوّل اسمها، بعد هذه الانضمام، إلى «الهيئة الشرعية المركزية». وصدر ميثاقٌ موسّعٌ جديدٌ لهذه الهيئة، شدّد في مقدّمته على تلازم المسارين في معركتي التحرير والبناء، تجنّباً لنتائج «حاضرةٍ ومستقبليةٍ غير مرغوبٍ بها. وما تجربة الاستقلال من المحتلين في مطلع القرن عنا ببعيد، حيث جاهد المسلمون وقطف العلمانيون الثمرة».

بالتسامح مع غياب الدقة في تناول الأحداث التاريخية، والاستطراد غير اللازم بحشد قدرٍ فائضٍ من النقول الفقهية التراثية، التي توجب على أهل كلّ بلدٍ «أن ينصّبوا من أهل العلم والرأي من يدير شؤونهم»؛ بدا الميثاق طموحاً في الأهداف التي حدّدها للهيئة، وذرائعياً في مغازلته «للعشائر العربية المسلمة في حوض الفرات لكي تقوم بدورها التاريخيّ المعروف»، فهي التي «طردت الفرنسيين أوائل القرن الماضي». وهو غزلٌ لن يثمر كثيراً في محاولاتها السيطرة على نفط المحافظة، وهو أحد أهمّ الدوافع وراء تشكيل الهيئة الشرعية المركزية، رغم تحديد التعاطي في شؤون النفط بمجرّد مكتبٍ فرعيٍّ يتبع لدائرة الخدمات، التي تؤلّف، إلى جانب 12 مكتباً وهيئةً وجسماً آخرين، البنية التنظيمية للهيئة الشرعية، بحسب ما ذكر الميثاق.

تألفت البنية التنظيمية للهيئة الشرعية المركزية مما يلي: المكتب القضائيّ؛ مكتب الدعوة والإرشاد؛ المكتب الشرعيّ؛ مكتب التعليم والدورات الشرعية؛ مكتب الرقية الشرعية؛ دائرة الخدمات؛ المكتب الإعلاميّ؛ المكتب الماليّ؛ القوة التنفيذية؛ المكتب العسكريّ؛ الديوان العام؛ مكتب العلاقات العامة؛ اللجنة النسائية.

أضافت حركة أحرار الشام، ثم جيش الإسلام –حديث التشكل في المحافظة آنذاك-، بعد انضمامه إلى الهيئة في منتصف الشهر 11 من عام 2013 مواقع نفطٍ جديدةً إلى دائرة سيطرتها. فقد كانت الحركة تسيطر على حصّةٍ رئيسيةٍ من آبار محطة الخرّاطة في الريف الغربيّ لدير الزور، فيما يحوز جيش الإسلام على حصصٍ ضئيلةٍ وغير ثابتةٍ من مواقع مختلفة.