لمن سيُكسر الفنجان هذه المرة؟

لم يكن العرب الأقحاح، وهم أهل القهوة المرّة، يكسرون الفنجان لأحد، حتى أتى يوم اجتمع فيه عشرات شيوخ العشائر في مضافة أحدهم في مدينة حماة، لحل خلاف بين عشيرتين، ونادى المضيف على خادمه طالباً منه «صب القهوة للشيوخ».

وخلافاً للمثل المتداول الغريب عنهم «عاليمين ولو أبو زيد عالشمال»، كان من عادة العرب خصّ كبير المشايخ بالضيافة أولاً، فوقف الخادم محتاراً من أين يبدأ، والتفت إلى سيده الذي نظر في الوجوه ليختار من بينهم مَن تبدأ عنده «دورة الفنجان»، وقال لخادمه: «من عند الشيخ فلان وعاليمين». نفذ الخادم كلام سيده فما كان من الضيف إلا أن احتسى قهوته ووضع في الفنجان ليرة ذهبية إكراماً للخادم، الذي، لشدة فرحه، كسر الفنجان وقال: «ما حدا يشرب فيه من بعدك يا شيخ»، فخرج الجميع من المضافة غاضبين، وعدّها كل منهم إهانة في حقه، وصار الخلاف أعمق مما كان عليه.

وفق اعتبارات عائلية ومناطقية تتشكل المجالس المحلية ومجالس الشورى والفصائل العسكرية وقياداتها ممن نعرف ولا نعرف، ويتصدر المساجد خطباء ودعاة لم نسمع عن علمهم في ما سبق، في تحييد واضح لأصحاب الفكر والعلم والحكمة. وبات لسان الحال يستعير جملة «من أنتم؟» لا تندراَ بل ألماً. لتعود المشكلة -بعد قرون من الزمن- في «أن نختار من كل قبيلة رجلاً»، ولكن اجتماعهم هذه المرّة لا لقتل نبي، بل في الحقيقة لتدمير ثورة شعب وقتل أبنائها وتجويعهم. وكعادة انتخابات مجلس الشعب السوري، باستثناء مقاعد الجبهة الوطنية التقدمية التي تقوم على سياسة «غصباً عنك»، فكانت المقاعد القليلة المتبقية تذهب إلى بعض رجال العشائر الكبيرة وأصحاب رؤوس الأموال؛ يجري الآن اختيار المجالس المحلية لتحقيق تلك التوازنات العائلية بحسب حجمها وسطوتها، ويصبح لزاماً على المُنتخَب أن يدافع عن حقوق عائلته ومنتخبيه، في الإغاثة والمساعدات، قبل حقوق أصحاب الحاجات والأرامل واليتامى وعائلات الشهداء.

ولا تختلف حال الفصائل عن سابقتها، إذ يجري توزيع الرتب القيادية لا من خلال معرفتك بالعلوم العسكرية وقدمك الوظيفي وقدراتك القتالية، بل من خلال تقربك من السلطان وقدرتك على تنفيذ أوامره، والنفاق له، وأحياناً بقدر ما تستطيع تحصيله من مال تضعه في خزينته، تاركاً المقاتلين لقدرهم وفقرهم، بعد أن مات معظم من قاتل لأجل الوطن، وتحول الجهاد إلى «بيعة»، وبات السبب الرئيسي لانضمامك إلى فصيل معين «حصة غذائية ومنحة مالية».

وللمساجد حكايتها الأخرى، فالمطلوب أن تؤم الناس بذات النغمة التي اعتادوها منذ سنتين، وأن تمتاز بصوت حسن يعينهم على الخشوع. وبعد ذلك ما الضير إن كانت الخطبة جاهزة، وتوزع على المساجد بنسخة واحدة، والفتاوى حاضرة، و«كل مخالفة بدعة»، فالشعب لا يعرف دينه، وعليه أن يفرغ «الذهن من محتواه» ويمتثل للدعوة الجديدة، مقتدياً بما فعله الداعية عمرو خالد أمام الكعبة في الدعاء لمتابعي صفحته، وجعل مفتاح الجنة مرتبطاً بـ«لايك» عليها، أما المرتبة العليا فلمن ضغط على زر «المشاركة».

وفي الجهة المقابلة -وإن تجاوزنا الحد قليلاً- فـ«الجهاد في بورما» والتعاطف مع أهلها واجب علينا، في وقت بات فيه التعاطف مع مهجّري حلب تهمة نتفاداها، والدفاع عما تبقى من أرض الثورة وموت أبناء الرقة ودير الزور في المرتبة الثانية أو ربما الثالثة أمام احتفالات الأسد بانتصاراته فيها. كيف لا والمكرمة الروسية في «الهدنة» أعطتنا مجالاً واسعاً للتفكير في خلافاتنا ومصالحنا الشخصية، فتأججت أحقادنا القديمة، وصار قتال «المرتد» المزعوم أولى من قتال «الكافر»، والتخوين سمة الوقت، والسرقة «تمويلاً للثورة».

هناك ثورة أخرى تعتمل في الصدور، أوجزتها عجوز لا يتسع عقلها للدين الجديد، وليست أماً لعضو مجلس منتخب أو قائد فصيل عسكري، عندما قالت: «الثورة يوم اللي كنا بالمغارات، ندعي لولادنا ينتصروا عالظالم ونستنى الفرج ونتسامح قبل ما ننام. طيارات بشار وحدت الجرح والناس. الموت وحده بيغسل القلوب، والكفن مالو جيوب».

من أين نبدأ بالضيافة، ومن سيكسر فنجان القهوة، لينفض هذا الجمع ويتركنا نكمل ما بدأناه، دون خادم أو شيخ ومَن «عاليمين ولو أبو زيد عالشمال»؟