غرائب داعش.... سلطة الخروج عن العقل

تسعى كل التنظيمات الإرهابية خصوصاً، والأصولية-العقائدية عموماً، إلى تكريس أنظمة تحكّم اجتماعية-اقتصادية؛ تتيح لها الاستقرار كـ«أنظمة» في البيئات البشرية التي تتواجد فيها، أو تسيطر عليها.

تجربة داعش في سوريا ليست استثناء هنا، بالرغم من أنها تتمايز عن سوابق مماثلة صنعتها القاعدة وطالبان في أفغانستان، والشباب في الصومال، في أنها تمثل شططاً مفرطاً في محاولة تكريس اللامعقول على أنه الواقع الممكن، بل والوحيد للحياة تحت سلطة التنظيم.

تقارب بوكو حرام في نيجيريا بعض مستويات إنتاج اللامعقولية لدى داعش، لكنها تبقى محصورة في إطار دمج الإرهاب بأعمال النخاسة الرخيصة، وتفتقر بحدة إلى حسّ الظهور الدعائي المفرط الذي يمتلكه التنظيم شرق الأوسطي.

يجب الإقرار أولاً أن داعش كتنظيم يمثّل خروجاً عن العقل في أساسه، وفي مبناه، وفي طرائق تعبيره عن وجوده، وادعاءات استقراره واستمراره.

ولا يرتبط هذا الخروج فقط بأن داعش يمثل سياقاً منقطعاً في الزمان الحاضر؛ يبدو وكأنه محاولة لإعادة حقن سرديات منقرضة عن الدولة في طور عتيق لها، ضمن كل المتاح من استخدام لهذا الحاضر، بل هو مرتبط كذلك بتعمد إظهاره دعائياً كأنه مظهر قوة نافذة ومحققة، ومتطورة في كل مرة تعرض نفسها فيها علناً.

ثمة في واقع داعش اللاعقلي مفردات يعاد إنتاجها ببشاعة متعمدة -وهذا التعمّد في إظهار البشاعة بات خصيصة عند التنظيمات الارهابية الشرقية- بحثاً عن تكريس الواقع الجديد، غير العاقل في ظلمه وفي ادعاءات الإنصاف فيه.. غير عاقل إلى درجة أن الإنصاف في عرضه على المظلوم يتحول إلى إرغام على ممارسة الظلم بقسوة.

كيف ذلك؟

يحدث في يوميات الحياة القسرية تحت سلطة ما يقول التنظيم إنها «دولته» المتقلصة بتسارع واضح أن تتعارض اعتيادات البشر القانونية مع النظم المزاجية لحسبة وقضاء وشرعيي داعش، فيتعرض أحدهم لعقوبة ما -ليست الذبح ولا الصلب هنا- ثم يصار إلى اكتشاف أنه مظلوم أو يعاد تصويره على أنه تعرض للظلم أو سوء التقدير، وفي هذه الحالة سيكون عليه مرغماً أن يقبل تعويض «الدولة» السخيّ الذي قد يصل في حالات معينة إلى منحه «سبيّة» ليتسرى بها أو ليبيعها.

هذا صادم بلا شك، والأمر يخرج عن نطاق اللامعقول -إذ أن اللامعقول هو المنطق السائد قبل هذا الشطط الوحشي أساساً- ليدخل في إطار فعل غير عاقل، وشاذ بالمعنى الفعلي.

سيكون على هذا المظلوم أن يقبل انتصاف «الدولة» له بدفعه إلى ممارسة ظلم أكبر، لا يستطيع رفضه كمبدأ لأنه سيرجم بالكفر ويذبح، ولا يمكنه رفضه تعللاً لأنه سيكون كمن يقرّ بذنبه الأول.

الفكرة هنا هي تكريس هذا المفهوم اجتماعياً، لأن أعتى عتاة المتطرفين السوريين قبل داعش، بمن فيهم منظري القاعدة ذاتها، لم يكن يخطر في ذهنه ان يتحول تبادل السبايا الى نمط من العلاقة بين المجتمع والسلطة... هناك آليات ردع اجتماعية تمنع هذا الانحدار حتى بين غلاة المتطرفين.

هذا في واقع الأمر «سبي للعقل» أكثر منه تعويض عن ظلم وقع ضمن اللامعقول السائد، وإرغام البشر على ربط أحزمة من الاعتقادات المتفجرة حول ما كانوا يعرفون أنه «المنطق العام» لحياتهم ونسفها لصالح ثنائية تفسر الخير بالظلم والشر بالذبح.

ليس في وعي ولا ذاكرة الرقة شيء عن السبايا. وهي فكرة، في أقصى حالات ظهورها، لا تعدو كونها سطراً أو اثنين في كتب التاريخ عن الحروب في القرون الوسطى.. السبي الداعشي أبعد بكثير حتى من شناعة الاغتصاب التي ما زالت تمارس في حروب اليوم؛ إنه تحويل جريمة الاغتصاب إلى حقّ وإنصاف.. طعن للعقل وسلطة العقل في تحديد الشرف والجريمة.

والسبي، أيضا، يستخدم هنا كمادة للبروباغندا -وظيفته تتجاوز تجارة رقيق علنية تمارسها بوكو حرام بمراحل- التي تحاول إنتاج واقع جديد متاح للقبول بمغريات جنسية لا ممنوعات فيها.

وببعض الطرافة تتضامن ممارسات داعش في هذا السياق التكريسي مع مسار دولة البعث.. إنها مجرد نسخة أكثر بشاعة من تلفيقات البعث التاريخية. لكن بينما كان البعثيون -الأسديون والصداميون- يعيدون تزوير التاريخ فإن داعش -وقسم من كبار قادته ضباط صداميون- يعيد تزوير الحاضر باعتباره جزءاً من تاريخ يعاد إحياؤه. فداعش يستخدم نفس حيل خلق الشعبية البائسة التي استمرأها البعثيون، والتي تقوم على ترويج كذبة يعرف كل الأطراف -المنتجون والمسوّقون والمتلقون- أنها تلفيقة رديئة لكن لا أحد يجرؤ على نقضها.

في حدث ينتمي إلى عقلية المسيرات العفوية، قام جهاز دعاية داعش بإعلان «إسلام وتوبة» مطرب أرمني «مشهور» من سكان الرقة واحتفل به.

الواقع أن كل سكان الرقة، بمن فيهم دواعشها، يعرفون أن هذا الشخص -وهو نجم معروف فعلاً- الذي قدمه داعش باعتباره «الفنان واهي» لم يكن سوى المسكين «واهي». وهو إنسان «عالبركة» كما يقال، كان يحب الغناء بصوت عال في أسواق الرقة أيام كانت المدينة تستمتع بالغناء «العاقل» وتبتسم مشفقة على «غير العاقل». وهو يغني في الأسواق عبثاً وتسلية لا أكثر.. قبل أن يسبي داعش نعمة الله عليه ويجعل «بركته» انتصاراً موهوماً لدولته على عقل المجتمع.