صور من أرض الخلافة

حين اشتكى السيد (م)، وهو شخصٌ من ريف دير الزور الشرقيّ، لشرعيٍّ محليٍّ ضيقَ ذات اليد، نصحه الأخير أن يصبر، وأن يتجاهل هو وأولاده الجوع، وأن يربطوا على بطونهم الحجارة، أسوةً بالسلف الصالح. "أربط على بطني حجر؟"، استنكر (م) وتجرّأ ليقول: "ترى امبارح يا شيخ شفتك تاكل كباب بالمطعم"! لم يتوقع الشرعيّ رداً جريئاً من شخصٍ يكاد يكون فاسقاً مثل هذا الكهل الجزع الذي نخرت سنوات التدخين أسنانه، ولم يتوقع أن رتبته المحترمة كشرعيٍّ تثلم هكذا وفي نقاشٍ عارض. لكنه قرّر أن يدفع بالتي هي أحسن، ويتجاهل الأمر كله، ويشيح بوجهه محدّثاً نفسه أنه امتلك دليلاً صادقاً يمكن له أن يتمتع بالحديث عنه أمام الأخوة، بأن جنود "الدولة" متواضعون مع "عوامّ المسلمين".

مساءً كانت وجبة العشاء ألذّ مما توقع الشرعيّ، وخاصّةً مع قدوم "إخوةٍ أرفع شأناً"، وانطلاق الحديث عن "عوامّ المسلمين" وتعدّد الآراء فيهم. قال شرطيّ حسبةٍ إنه يدعو بالحسنى، ولولا صبره لألقى بنصف أهل القرية في السجن. وقال مبايعٌ قديمٌ إن في عوامّ المسلمين "الجاسوس والحاقد على دولة الإسلام والمنافق"، ولولا هؤلاء "لانتصرنا". فعنهم تصدر الكبائر، و"في قلوبهم تسرح الشياطين وتمرح". ودمدم مراهقٌ وهو يصبّ كؤوس الماء: "مرتدّين".

كان الرجل الأرفع مرتبةً بين الجميع ما يزال صامتاً، مما شجّع الشرعيّ المحليّ على انفعاله المحسوب بدقةٍ فسأل متألماً: "يا شيخ فهّمونا؛ إذا عوام المسلمين مرتدّين -مثل ما يقول بعض الإخوة- ليش نحن تاركينهم عايشين؟ لازم نطلع عليهم هسّع ونقطع روسهم واحد ورا الآخر من الطارف، وإذا مسلمين تا نحترمهم ونحطّهم على روسنا. فهّمونا يا شيخ!". لم يجب الأرفع شأناً بل اكتفى بابتسامةٍ، قبل أن يلتفت إلى سائلٍ آخر طلب توضيح الفرق بين "المؤلفة قلوبهم" و"عوامّ المسلمين"

***

كان الحاج (س) يتبضّع مع زوجته في السوق قبل أن يعود إلى قريته. بدا أنيقاً ومهيباً في زيه التقليديّ كرجلٍ ذي مكانة. وكان عناصر الحسبة صائمين وغاضبين، يشعرون بالملل تحت شمس مدينة الميادين الحارقة، فقد تقلص عدد المخالفات المسلية لهم إلى الصفر. لكن مشية الحاج الواثق من نفسه، ولباسه الذي لم يراعي تعليماتهم بخصوص "ثياب الرجال"، ومروره إلى جانب سيارتهم وكأنهم غير موجودين جرح كبريائهم؛ فنادوه على الفور: "يا شيخ يا شيخ... إزارك إزارك". لم يفهم الكهل معنى الكلمة وتساءل. "إي، إزارك طويل وبدنا نقصّه"، هتف عنصرٌ عصبيٌّ وهو يلوّح بمقص. وسمع صوت المرأة: "شنو إزارك يابن الحلال؟". "اسكتي إنتي"، أخرس العنصر المرأة وصرخ في وجه الرجل: "جلابيتك طويلة، بدنا نقصّها".

خلال الدقائق اللاحقة، لم يصدّق الحاجّ ما أحسّ به عند قصّ ثوبه، ولم يصدّق ما مرّ به بعد أن أمروه بالانصراف، لكنه كان متأكداً من أنه تعرّض للإهانة وأمام زوجته وبلا أدنى سبب.