خرافة المكوّن العربي السنّي

يشغل تعبير «المكون العربي السني» موقعاً أثيراً في السردية التي تسوقها واشنطن، وقيادة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، عند الحديث عن معركة الرقة.

وتستخدم إدارة الرئيس دونالد ترامب، كما سابقتها -إدارة باراك أوباما- هذا التعبير في سياق محاولة طمأنة بعض الحلفاء؛ الذين تزعجهم مشاركة ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديموقراطي، في العملية، بل وواقعياً، قيادتها للحملة البرية على المدينة، التي باتت محور الاهتمام العالمي في سوريا مؤخراً.

ويؤكد التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة، أنه سيقوم في نهاية المطاف، بتسليم المدينة إلى «المكون العربي السني» في قوات سوريا الديموقراطية التي تشكل الوحدات الكردية عمادها وقوتها الحقيقية على أرض المعركة.

المفارقة هنا أن الأمر يأخذ طابع الرشوة -أو الوعد بالرشوة- بعد انتهاء المعركة، وطرد داعش من أهم موقع سيطر عليه في سوريا، لكن هذه السردية تصطدم كل مرة بطموحات معلنة للميليشيات الكردية، وواجهتها السياسية، إذ تتكرر تصريحات قادة الحزب، وآخرهم زعيمه صالح مسلم، بأن الرقة ستكون جزءاً أو أنها ستنضم إلى الفيدرالية المعلنة من طرف واحد في شمال سوريا، ومع أن الأميركيين سارعوا إلى التملص من هذه التصريحات، وأعادوا مستقبل سوريا إلى «ما يقرره السوريون» ثم أعلنوا أنهم سيسلمون المدينة إلى «المكون العربي السني» إياه، إلا أن هذا لم ينتج سوى مزيد من الغضب في تركيا التي لا ترى في الحزب الكردي السوري سوى امتداد لحزب العمال الكردستاني -المصنف كتنظيم إرهابي في الولايات المتحدة- بمشروع انفصالي واضح المعالم. والواقع أن الاتحاد الديموقراطي نفسه وإن كان يلوذ بالصمت إزاء علاقته بالكردستاني التركي، فإن أدبياته السياسية برمتها تقوم على آراء عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي للحزب الكردستاني التركي والذي تحتل صوره مكان صور حافظ الأسد وبشار الأسد في مناطق السيطرة الكردية المتفردة داخل ما بات يطلق عليه «روج آفا» أو أنها تشارك صور رئيسي النظام السوري حيز العلن في مناطق السيطرة المشتركة.

السؤال هنا يتعلق بهذا «المكون العربي السني» الذي يعمل كـ«محلل» للامتداد الجغرافي المتنامي للمليشيات الكردية.

الصيغة الواسعة لهذا التعبير تحمل طابعاً ديموغرافياً متسقاً يُفترض أنه يتمم، أو يشغل، الحيز الأوسع ظهوراً في مقابل مكون كردي، ومكونات قومية وطائفية أخرى -آشورية وسريانية وتركمانية وغيرها- لا يرد ذكرها كثيراً في سياق الحديث عن قوات سوريا الديموقراطية، لكن الحقيقة ليست بهذا التجانس، المكون العربي السني يتألف من خلطة عشائرية ومناطقية متباينة الأهداف والنوايا، بل إن بعض عناصر هذا المكون تختزن في ما بينها فرصة احتراب داخلي؛ هناك فصائل قاتلت مع الجيش الحر، وآخرون تحالفوا لفترة مع جبهة النصرة ثم تركوها -جيش الثوار، مثلاً، كان جزءاً من غرفة فتح حلب ثم اشتبك مع الجبهة الشامية وانفصل متجهاً للحصول على دعم أميركي ضد داعش- وآخرون ينتمون جوهرياً وعملانياً إلى معسكر النظام، وقاتلوا معه ضد الجيش الحر وبقية فصائل المعارضة المسلحة، وبعضهم محسوب منذ بداية الثورة على مليشيات الدفاع الوطني -الاسم الرسمي للشبيحة- بالإضافة إلى مسلحي عشائر فراتية شكلوا يوماً العمود الفقري لجبهة النصرة في ريف دير الزور.

لا يمكن الاستنتاج بسهولة أن ثمة مشروعاً مشتركاً داخل «سوريا الديموقراطية». وهذا الاسم الرنان يضمر تناقضاً مسكوتاً عنه ومؤجلاً تحت ضغط ضرورة التخلص من داعش، بين مشروع كردي فيدرالي هو الاقوى داخل التجمع وبين شظايا طموحات انتقامية وثأرية وأخرى باحثة عن خارطة جديدة لتوازن القوى العشائري في المنطقة على أنقاض ما كان أصلاً حطام التوازن الأعرافي الذي أنشأه نظام حافظ الأسد بعد تقويض التوازن التاريخي للقوى الذي رسخ صورة المنطقة منذ قرنين أو أكثر من الزمان.

وفي حين ترددت أنباء قبل فترة عن محاولات أميركية لإدماج أربع من كبرى عشائر الرقة –البياطرة والعجيل والنعيم والبريج– في جهد محاربة داعش، فإن هذا الاقتراح اصطدم بمواقف متباينة من الأكراد والنظام وداعش. وفي حين أن «المكون الكردي» يبدي تماسكاً مركزياً حول قيادة موحدة وانتظاماً عسكرياً داخل الجناح المسلح، فإن «المكون العربي السني» مشتت بحدة حول الأدوار المستقبلية والحاكمية والثورة نفسها.

فالبياطرة مثلاً معادون لداعش –كحال الغالبية الساحقة من أبناء المنطقة– لكنهم معارضون بنفس القدر لأي دور للنظام والأكراد –في تمثيلهم عبر حزب صالح مسلم- في الرقة، وهو ما قد يصطدم بموقف أكثر مرونة لعشائر أخرى قد تقبل تسوية ما.

الواقع أن تعبير «المكون العربي السني» يفتقر إلى الاتساق، و يعكس تصوراً بدائياً للمجتمع وقراءة لا تأخذ في الاعتبار التحولات التي أفرزتها سنوات الثورة.

وضع ثقل قومي-مذهبي مقابل للأكراد ليس سوى تكريس للانفصال، بعكس ما يفترض أن يكون دوره كعامل تعاون وتكامل.