ما أحدثته ثورات الربيع العربي من حراك فكري وإبداعات أدبية وازدهار إعلامي كان فرصة سانحة لتستعيد بعض المصطلحات عافيتها وتسترجع شيئاً من ألقها. طائفة واسعة من الألفاظ التي ظلت لفترات طويلة في حالة خصومة مع الشارع صارت، مع انطلاقة الربيع، مستساغة لمسامع العامة وجارية على ألسنتهم.

مفردات من قبيل الحس الوطني وإرادة الشعب والتغيير الثوري ودور المثقف، التي طالما كانت محصورة ببيانات الانقلابات العسكرية وخطابات الأحزاب المهلهلة ومحاضرات المستحاثات الثقافية، عادت لتحتل مكانتها الطبيعية في قلوب الشباب الثائر فتُقدَّم دونها الأرواح والمهج.

نعم، كانت الفرصة متاحة بقوة على امتداد عامي 2011 و2012 لتأخذ الكلمات معانيها والاصطلاحات مفاعيلها، ثم بدأت تتقلص مع النصف الأول من عام 2013. لا شك أن السبب الرئيس هو هول الإجرام الذي مارسته الطغم الحاكمة والذي خنق الكثير من الأحلام في مهدها. ولعل تحول الطرق الثورية من النشاط السلمي إلى العسكرة، مع ما يترتب على ذلك حتماً من تراجع في العمل الإبداعي، أسهم بطريقة ما في تفويت الفرصة، يضاف إلى ذلك المد السلفي العسكري والمالي وما رافقه من تأثيرات مجتمعية.

إلا أن أحد العوامل التي لم تأخذ نصيبها من الدراسة، ولأسباب معلومة في هذا المد والجزر، الدور الذي لعبته منظمات المجتمع المدني في إجهاض المحاولات العفوية أو على الأقل منع إنضاجها. فمع أن ما تطرحه تلك المنظمات هو قيم الحرية والمساوة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وغيرها، مما يبدو للوهلة الأولى أنه يعزز هذه المصطلحات المحارَبة ويجلي معانيها، إلا أن الواقع كان مغايراً. فمنذ اللحظة الأولى تعلن تلك المؤسسات أن قبول «الآخر» هو بداية الطريق، والآخر هنا ليس المختلف معك في أدوات الثورة أو من يمتلك سرداً مغايراً لأحداثها، وإنما هو السفاح وزبانيته ومن والاه. ويحتاج الأمر إلى دورة تدريب وورشتي عمل لتسبغ على صاحب الحظ لقب «ناشط». والناشط إنسان مثقف محايد قادر على التحليل ببرود وحنكة، تستقبله القنوات وتتسابق عليه المنتديات، على عكس الثائر، ذلك العاطفي الرث النزق. ويبدأ مسلسل الناشط الذي من أهم حلقاته استنكار السلاح، كل السلاح من كل الأطراف، وقد أمسوا أطرافاً لا جزاراً وضحية. تسمع ذلك لا من وزير خارجية دولة عظمى، بل على لسان إعلامي كان قبل أشهر مقدماً على الموت في سبيل صورتين أو ثلاث لمجاهد أمام دبابة محترقة لميليشيات الدكتاتور. حلقة أخرى يعرّج فيها المسلسل على حقوق الأطفال فتركز الناشطة الفنانة على مسرح الطفل كضرورة وجودية للطفولة المنتهكة، فيما بلغت أعداد الأطفال المحرومين من التعليم والذين لا يعرفون القراءة والكتابة أرقاماً مخيفة. وعنوان حلقة أخرى هو الحرية المسلوبة للمرأة في اختيار ملابسها في مناطق أصحاب اللحى، لتكون مداخلة ناشط في ندوة تتناول أمر المغتصبات والمعتقلات: «تعاني المرأة في مناطق سيطرة الفصائل بشكل أشد وأعتى مما تجده في مناطق النظام». وللتذكير، ليس إعلام النظام من يتحدث هنا بل ناشط ومعتقل سابق. أمام هذه المواضيع الجوهرية التي يتصدى لها الناشط تتراجع، وربما تغيب، قضايا أقل شأناً كمصابي الحرب وعوائل الشهداء والتهجير والتطهير. وهكذا يصبح خطاب ابن الثورة القديم نسخة مكربنة عمّا تقدمه فضائيات الدول الصديقة. وما لم تنجزه البراميل المتفجرة تحققه لعبة المصطلحات، والعزيمة التي لم تفلّها شلالات الدماء تتهاوى على طاولة فخمة في قاعة فاخرة وعطر أخاذ وكلام منمق عن التسامح والعدالة الانتقالية، وباسم التعددية تتجدد حالة الغربة الموجودة أصلاً بين المجتمع وممثليه، وبين الجموع وإرادتها، والأخطر بين الشعب ولغته.

في ظل هذا السحق المتعمد للمصطلح والاغتيال الممنهج للكلمة، يحدث في منظمة إنسانية عاملة بتركيا -ما كانت لتوجد أساساً لولا اندلاع الثورة السورية المباركة- أن يطرح خلال (مقابلة عمل) السؤال (الحربوق) التالي: «ماذا ستكون ردة فعلك لو رأيت طفلاً يرسم العلم الأخضر وآخر يرسم الأحمر؟». والإجابة المطلوبة هي أن الأمر سيان، وهو ما سيطرب مسامع صاحبة السؤال، السيدة المحترمة، بنت إحدى الطوائف الكريمة (وكل الأقليات في بلادي كريمة، وحدها الأكثرية هي الوضيعة).

مع التأكيد أن مرد الإعجاب بالجواب ليس رمادية السائلة -لا سمح الله- وإنما لأن المهنية والاحتراف يقتضيان ذلك، ليسقط تعبير آخر صريعاً تحت أقدام الممول.