بكر صدقي... المثقف اليساريّ أم "الكرديّ"!!

نشرت مجلة "عين المدينة"(1) مقالاً للكاتب بكر صدقي تحت عنوان "إعلان الفيدرالية كجوكرٍ على طاولة جنيف". وفي محاولةٍ لتتبع الجوكر لم نجد له أثراً إلا في جملةٍ يتيمةٍ جاءت قبيل ختام المقالة، تتحدث عن أن "صالح مسلم لعب جوكراً كان بحوزته لينضمّ إلى بازار جنيف، وليقتل الحكومة التركية بغيظها. وتمكن، ثالثاً، من افتعال زوبعةٍ في فنجان، فقرَّبَ بين النظام والمعارضة وفقاً للخطة الروسية للحل السلميّ".

وإذا تجاوزنا هذا التحليل الركيك(2) لأهداف إعلان الفيدرالية، وانتقلنا إلى باقي المتن المحبوك بإحكام، سنجد أن صدقي قد حاول استكمال أطروحته التي بدأها في مقالٍ سابقٍ له نشرته جريدة "القدس العربي" تحت عنوان "في الفيدرالية والنقاش الدائر حولها"(3)، مفرّغاً كلّ ما في جعبته ليبرهن فكرة "اتفق الجميع علينا"، و"الجميع" -حسب ما أورد- هم النظام والمعارضة والدول الإقليمية وروسيا والولايات المتحدة وكُرد البارزاني والطالباني في سوريا، والـ"نا" هنا دالةٌ على الأكراد. وأن هذا الاتفاق لم يحصل في تاريخ المعارضة والنظام إلا على "رفض إعلان الفيدرالية"، حسب تعبيره في "القدس العربي"، وضدّ إعلان "صالح مسلم وربعُه إقامة كيانٍ فيدراليٍّ في شمال سوريا"، وفق ما أتى في "عين المدينة"، في أفضل تقدير، وضد الكيان الفيدراليّ ذاته في أسوأ تقدير. وأن ينسب الكاتب الأمرَ هنا لصالح مسلم وربعه هو مؤشرٌ على تراجعه إلى الصفوف الخلفية لمؤيدي إعلان الفيدرالية في هذا الموضع فقط من النصّ، لكنه كان أكثر إيضاحاً لما يدور في خلده في ما بعد بطرح سؤالٍ على المعارضة: "هل توافق على بقاء النظام، إذا كان ثمن إزالته تقسيم سوريا من خلال قيام كيانٍ كرديٍّ مستقلٍّ في الشمال؟؟"، ثم يجيب عن تساؤله المشروع بافتراضٍ جعل منه حقيقةً، مُرجعاً برهانه إلى اتفاق المعارضة والنظام على رفض الفيدرالية: "الجواب "البديهي" هو: نعم، ليبق النظام. هذا ليس افتراضاً من عندي، بل هو ما حدث حين اتفق النظام والمعارضة على رفض الفيدرالية".

وهكذا ساق الكاتب تهمتين للمعارضة دون أدلةٍ كافية؛ الأولى جعلها تتفق، للمرّة الأولى بعد خمس سنوات ثورةٍ (سماها "مقتلة")، مع النظام ضد إعلان الفيدرالية، وكأنه نسي أن جميع مكوّنات الشعب السوريّ، معارضةً وموالاة، بما فيها المكوّن الكردي، قد اتفقوا قبل ذلك ضدّ ما يسمّى "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، ليس فقط رفضاً للهمجية والتكفير اللذين يتسم بهما التنظيم، وإنما رفضاً لاقتطاع جزءٍ من سوريا تحت مسمّياتٍ وتوجهاتٍ خارجةٍ عن طبيعة السوريين.

والتهمة الثانية هي استشراف صدقي بأن المعارضة قبلت التنازل للنظام مقابل بقاء سورية موحّدة، مما يترتّب عليه انتهاء الحرب، وأن النظام -الذي لا يزال موجوداً بترحابٍ في غالبية مناطق الكيان الفيدراليّ المزعوم- سيرتدّ وبالاً على الأكراد، وقد يصل به الأمر إلى استخدام الكيماويّ لإبادتهم، لتصحّ حينها تسمية صدقي للنظام بـ"الكيماوي"، في محاولةٍ منه لاستحضار النموذج الشائع عن "حلبجة" والنظام العراقيّ السابق، لاستعطاف عامة الكرد في شتى أصقاع المعمورة للالتفاف حول نظريته.

لكن صدقي نفى أن تكون نظريته "مناحةً صادرةً عن مظلوميةٍ أقلويةٍ لسان حالها (اتفق الجميع علينا)"، وبرّر ذلك بربطٍ عَصيٍّ على المنطق من قبيل أنها "محاولةٌ للتنبيه من أوهامٍ قاتلةٍ ..... قادرة على التلاعب بعواطف الجموع ومصائرهم". ثم يوضح أنه يقصد هنا وهم الأمة الغالبة، الذي لا يشبه إلا فقه الغَلَبَة الذي يعتمده تنظيم داعش في مواجهة القوى الإسلامية الأخرى، وهو ما اعتمده حزب الاتحاد الديمقراطيّ لإعلان فيدراليته بالمناسبة. ثم يتابع الحديث عن وهم "السيادة الوطنية"، التي يتحمل مسؤولية إهدارها كلّ من استقدم القوى الأجنبية أو استعان بها، بما فيهم النظام وحزب مسلم اللذان يقاتلان تحت الغطاء الجوّيّ الروسيّ. ومن ثمّ "وهمُ أن السوريين كانوا متساوين في التعرّض لظلم نظام الأسد، وسيكونون متساوين في العدالة في الجنة الديموقراطية الموعودة بعد إسقاطه، بصرف النظر عن الدين والعرق والمذهب (إلخ إلخ)". فينفي صدقي، في الشقّ الأوّل من هذا "الوهم"، أن السوريين كانوا متساوين في التعرّض لظلم النظام، في محاولةٍ للإيحاء أو التصريح بأن الكرد هم أصحاب المظلومية الأعظم. وكأنه نسي أن النظام، الذي يسمّيه "الكيماوي"، قد ضرب الغوطة الشرقية لدمشق بهذا السلاح وليس "القامشلو". بينما يذهب في الشقّ الثاني إلى التهكم والاستخفاف بالعقد الاجتماعيّ السياسيّ الذي خرجت من أجله المظاهرات. ويأتي هذا الكلام الحذِر بعد إيغال الكاتب -في "القدس العربي"- في الانتقاص من ذات العقد الذي يمكن أن يبقينا كسوريين تحت مظلةٍ واحدة- المظلة السورية، حين يقول: "هناك صعود مطرد في الوعي الذاتي للكرد كجماعة متمايزة، لا يمكن مواجهته بدعاوى ساذجة من نوع أن الحل هو في "دولة ديمقراطية قائمة على المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العرق والدين والجنس".

في "عين المدينة" يذهب صدقي إلى أن كلّ ما جرى لسورية لم يؤدِّ "إلى الوقوف دقيقة صمتٍ على شهيدٍ اسمه الكيان السوريّ"، هو الذي اعتبر في "القدس العربي" أن رفض إعلان الفيدرالية "دلالة مشؤومة على الصفة السالبة للوطنية السورية كما لو كانت هي الوحيدة الممكنة، وهي الوطنية القائمة على رفض الآخر وتطلعاته". ويتمنى لو أننا ننعى الكيان السوريّ بعد أن اعتبر الهوية الوطنية السورية ليست الوحيدة وأنها قائمة على رفض الآخر، في إشارةٍ منه إلى أن الهوية الكردية تشكل ندّاً للهوية السورية، وأن الأخيرة ترفض الأولى، في حين يعرف القاصي والداني أن الهوية السورية تطوي تحت مسمّاها جميع الأعراق والإثنيات. وكأنه كان يهيّئ القارئ ليتحدث بكامل حريته عن "تطلعات الآخر" في ختام مقالته في "عين المدينة": "أما الكرد فهم، ببساطةٍ، يريدون الاستقلال في دولةٍ تخصّهم، بعدما يئسوا من التخلص من اتهامهم بالنزعة الانفصالية. لكن هذا موضوعٌ آخر، لا علاقة له بلعبة البوكر التي يلعبها صالح مسلم".

تلك هي المسألة إذاً! الاستقلال في دولةٍ كرديةٍ هو مجرّد ردّة فعلٍ على الاتهامات للكرد بأنهم أصحاب نزعةٍ انفصالية، والذهاب أبعد من الفيدرالية التي ربما قبلها السوريون لو أنها طُرحت في ظروفٍ سليمةٍ للدولة السورية وربما رفضوها. وكأن الأمر لا يعدو خيانة امرأةٍ بسبب كثرة ارتياب زوجها. نافياً، بهذا التصريح، كلّ ما في ذاكرتنا عن مظلمة الكُرد في عصر البعث، كحجب الجنسية عن مئات الآلاف، ومنعهم من التعلّم بلغتهم، بل تعدّى الاضطهاد إلى التضييق على معالم مهمةٍ لثقافتهم، كالاحتفال بأعيادهم الخاصّة والغناء بالكردية. والمعروف أن تلك المظالم المحقّة، وغيرها، هي ما قد يدفع قسماً –لم يتضح حجمه بعد- من الأكراد إلى التفكير في الاستقلال الإداريّ تحت اسم الفيدرالية، أو التامّ تحت اسم "دولة كردية"، وليس تكرار اتهامهم بالنزعة الانفصالية.

وهنا يدخل الكاتب في مغالطةٍ منطقيةٍ في تشريح المكوّن الكرديّ إبان إعلان الفيدرالية، حين يعتبر الأكراد كتلةً واحدةً متهمَّةً بالنزعة الانفصالية، بعد أن كان قد اعتبر "كرد البارزاني والطالباني في سوريا" من بين الجميع المجتمِع عليهم في رفضها. ولجَمَ المتلقي المتعقل بالتهكم على كلّ من يعتبر قسماً من الأكراد "طيبين حبابين" غير متفقين مع صالح مسلم ولا مع إعلان الفيدرالية.

ثم ما علاقة البوكر بالجوكر!! أهو التشابه في وزن الكلمتين فقط؟!! فما نعرفه أن لعبة البوكر مقامرةٌ بكلّ ما يملك اللاعب، ولا تحوي على الجوكر بين أوراقها، وأن الجوكر، في ألعابٍ أخرى، يمثل الورقة القوية التي تُستخدم في الأوقات الصعبة. وهو ما يجعلنا في حيرةٍ من أمر إعلان الفيدرالية حسب رؤية الكاتب، فهل هي ورقةٌ رابحةٌ لعبها مسلم في وقتٍ حرج، أم هي مقامرةٌ بكلّ "إنجازات" حزب الاتحاد الديمقراطي!!

لا يعكس هذا التخبّط في مقالتَي بكر صدقي إلا صراعاً يعتمل في داخله بين المثقف اليساريّ والحلم الكرديّ الذي يكاد يطغى على وجدانه. فالمثقف اليساريّ يقفز على جميع الانتماءات الموروثة (الإثنية والعرقية) في سبيل المصلحة العليا، والمثقف الفئويّ الكرديّ يطالب بدولةٍ مستقلةٍ في ذروة ضعف سورية-الوطن الجامع. وبين هذا وذاك على الكاتب أن يحدّد ملامح ثقافته.

 


(1) العدد 70، 1 نيسان 2016.
(2) قد تكون لصالح مسلم رغبةٌ في الدخول في جنيف، لكن الهدف الرئيس هو التأسيس للدولة الكردية. ولا يقتنع عاقلٌ أن مسلم يرغب في استعداء تركيا، بالرغم من غضبها فعلاً من إعلان الفيدرالية في الشمال السوريّ. أما التقريب بين النظام والمعارضة في جنيف فهو تناقضٌ واضحٌ مع الهدف الأول، لأن مسلم -حسب صدقي- أعلن الفيدرالية ليدخل جنيف، فكيف لطرفين تقاربا أن يقبلا بطرفٍ ثالثٍ في المفاوضات؟
(3) 23 آذار 2016.