الجريمة والعقاب عند داعش قانونٌ مزاجيٌّ وعقوباتٌ ارتجالية

لا يخلو تنظيم الدولة من "تنظيمٍ" في أجهزته، وإن كان مشوباً بالكثير من المزاجية والمغالاة والمزايدة. وذلك لما يتمتّع به التنظيم -قياساً بالتنظيمات الأخرى على الأرض- من مركزيةٍ في القرارات، وإمكانياتٍ ماديةٍ هائلةٍ، وتراتبيةٍ صارمةٍ يخضع لها عناصره قبل الأهالي الذين يعيشون في مناطق سيطرته. ورغم تداخل اختصاصات تلك الأجهزة، والتعتيم على نظمها، وعدم وضوح قوانينها وعدم نشرها، فإن المراقب يستطيع تمييز الكثير مما يفرضه التنظيم، وما يلاحق عليه من مخالفات، والعقوبات التي تقاطعت في شهادات الكثيرين ممن خاضوا تجربة الولوج إلى أحد تلك الأجهزة العقابية.

يلاحظ أحد محاميّي مدينة دير الزور أن التنظيم يعتمد أسلوب الأجهزة المندمجة، مما يسرّع بتّ وتنفيذ الأحكام. إذ تختلط الأجهزة القضائية بالتنفيذية وأحياناً التشريعية، وهو ما جعل أحكامها عرضةً للأهواء والارتجال، لعدم رسوخ تلك الأجهزة، وعملها في الظلّ، وجهل العاملين فيها بالعمل المؤسّساتي. لكنه، في الفترة الأخيرة، صار يعتمد على ما تراكم لديه من عقوباتٍ، كوّنت نوعاً من الأحكام العرفية، يلجأ إليها شرعيو التنظيم في القضايا التي يتولونها. كما لاحظ المحامي أن تلك الأجهزة تتقاسم العمل بحسب درجة التهمة التي تنظر فيها؛ فهناك تهمٌ من الدرجة الأولى، وتهمٌ من الدرجة الثانية، وتهمٌ من الدرجة الثالثة، تتوزّع بين الحسبة والشرطة والأمن العام. ويضمّ كلٌّ من هذه الأجهزة عناصر للاعتقال ولتنفيذ الحكم، وشرعياً (قاضياً) لإصدار ذلك الحكم، وسجناً خاصّاً. ويرى أحد الناشطين أن الحسبة تتولى القوانين الشخصية، والشرطة تتولى القوانين المجتمعية، والأمن يتولى القوانين "السيادية".

الحسبة

استمدّ التنظيم تسمية الحسبة من التاريخ العربيّ الإسلاميّ. يقول المحامي: "في الماضي، كانت الحسبة تعمل عمل البلدية، في متابعة أمور الأسواق وتنظيمها، وإزالة مخالفات المحلات، ومنح أصحاب المهن -بعد الفحص- الرخص اللازمة لمزاولة المهنة. أما حسبة التنظيم (وهي تقوم مقام محكمة صلح الجزاء) فتلاحق مخالفاتٍ من قبيل تعاطي التبغ وبيعه؛ عدم دخول المسجد وقت الصلاة؛ طريقة قصّ الشعر؛ حلق الذقن؛ لباس المرأة (والرجل أحياناً)؛ ممارسة إحدى الشعائر بطريقةٍ مغايرة لطرقهم ...".
وقد أصبحت هذه المخالفات، وغيرها، معروفةً للأهالي، وعقوباتها محدّدةً بما يشبه العرف. فالشخص الذي تضبطه الحسبة وهو يدخّن، أو معه علبة سجائر بعد التفتيش، يعاقب بالحبس من يومٍ حتى ثلاثة أيام. أما بائع السجائر فيُحبس من ثلاثة أيامٍ حتى أسبوعين، ويُغرّم بألف ليرةٍ عن كلّ "كروز" سجائر (عشر علب). وتُمنح المخالِفة للباس التنظيم عباءةً جديدةً، ويُصادر لباسها المخالف، وتُغرّم بثلاثة آلاف ليرةٍ، باحتجاز أحد أقاربها حتى الدفع. والغرامات المالية قابلةٌ للتفاوض، بينما يُجلد السجين في حال تكرار المخالفة.

لكن تفتيش المارّة واعتقالهم يخضع لاعتباراتٍ أخرى غير تلك القوانين؛ "يعتقلوني لأني كنت بالجيش الحرّ"، يقول هاني الذي اعتقلته الحسبة أربع مرّات. "أحياناً يفتشوني ما يليقون عندي دخان فيدوّرون على حجّة تايعتقلوني". "مرّة سألني رئيس الدورية ما هو الناقض الرابع من نواقض الاسلام؟! -بحسب كتيّباتهم– فاعتقلوني لأني ما عرفت". "وأنا بالسجن اعتقلو واحد لأنو شافوه يمسح رقبتو بالوضوء!".
يوظّف التنظيم في جهاز الحسبة عناصر تجوب الشوارع الرئيسية داخل المدينة، في دورياتٍ راجلةٍ أو راكبةٍ على مدار الساعة، تجمع المعتقلين في حافلة (فان)، وتسوقهم إلى المقرّ الذي يضمّ السجن. كما يضمّ الجهاز شرعياً (قاضياً) يتولى التحقيق وإصدار الحكم، دون إبلاغه للمتهم. وفيما عدا الإهانات عند الاعتقال، لا يتعرّض المتهم للضرب إلا في حال اعتراضه على توقيف العناصر له أو على حكم الشرعيّ. "يضربون اللي يعيندهم"، يقول أبو ماهر الذي قضى ثلاثة أيامٍ لديهم بتهمة التدخين. "يضربون بالأخضر الإبراهيمي" (أنبوبٌ بلاستيكيٌ لتمديد المياه). وفي بعض الأحيان يشغّلون السجناء بحفر الخنادق على الجبهات، مما تسبّب بقتل أكثر من سجينٍ بنيران قوّات الأسد. كما يستعملون السجن الانفراديّ، في بعض الحالات.
يعرض تلفاز السجن الإصدارات المرئية للتنظيم. وتُوزّع على السجناء كتيباته لحفظها، وليستظهرونها أمام الشرعيّ. وفي حال الحفظ يخرج السجين قبل انقضاء مدّة حبسه.

الشرطة

ليـــس لها حضــورٌ كثيـفٌ في المدينة، رغم أن لها دورياتٍ تجـوب الشوارع. عناصـــرها أغلبهم من القـصّر، وشرعيّوها يتولون التحقيق وإصدار الأحكام. ولها سجنٌ خاصٌّ يهتمّ التنظيم بنظافته وطعام نزلائه كشأن السجون الأخرى في المدينة. ولا يكاد جهاز الشرطة يفرض أية قوانين خاصّةٍ في عمله اليوميّ؛ فهو يسـتقبل البلاغـات عن أمورٍ مثل (المشاجرات؛ السرقة؛ النزاعات التجارية والمالية...)، ويقضي فيــها كمــحكمة الجنح. كما يتدخّل في تنظيـــم الطوابير ونقل المتهمين من سجنٍ إلى آخر.
يميّز التنظيم جهاز شرطته بتسميته "الشرطة الإسلامية"، لكن نظرة الأهالي إلى عناصر هذا الجهاز لم تتغيّر عما كانت أيام النظام؛ فهم "دراويش"، ليست لهم سطوة الأمنيين ولا حشرية الحسبة. "مثل الشرطة أوّلي، تا تخلص الكونة –المشاجرة- تا يجون"، كما يقول أبو صالح الذي اعتقلوه وهو يحاول "حجز" المتشاجرين. "وياخذون كلّ الموجودين قبل ما يعرفون شكون السالفة". وفي هذه الحالات يستمع الشرعيّ إلى أقوال المعتقلين، ثم يدفع باتجاه الصلح وتبويس الشوارب، بالتهديد. فبمقدوره أن يخترع المخالفات لأيّ شخصٍ، ولكنه يتغاضى عنها مقابل "الرضوة". وكذلك تحبس الشرطة المخلّين بالطوابير والمتجمّعين في الأماكن العامة، لساعاتٍ، دون اتهام. أما في حالات السرقة والمنازعات المالية، فعدا محاولات العناصر ابتزاز المسروقات والأموال المتنازع عليها (بدعوى عائديتها لجهاتٍ معاديةٍ للتنظيم)، فهم يحيلون الأطراف إلى محاكم خارج المدينة، بعد التحقيق المصحوب بالضرب المضاعف، بحسب القضية.

الأمن العامّ

عناصره غير معروفين، لحرصهم على وضع لثامٍ على وجوههم، ويسمَّون بالأمنيين. وقد ميّز العديد من السجناء عناصر سابقةً في جبهة النصرة بينهم. وفي حين تستعمل الحسبة والشرطة الفانات في دورياتهم، يستعمل الأمنيون البيك آب ذا الدفع الرباعيّ. ويرى الأهالي في ذلك تقليداً لأفرع أمن النظام. والملاحظ أن لهم صلاحياتٍ واسعةً، بالإضافة إلى محكمة الجنايات التي يرى المحامي أنهم يقومون بعملها. أما القوانين التي يفرضونها ويلاحقون مخالفاتها فأشهرها (حيازة السلاح؛ العمل في الإعلام؛ التواصل مع المنظمات؛ العمل في الشأن العام خارج التنظيم؛ تبني أفكارٍ تخالف الأفكار التي يروّج لها؛ عدم الحصول على "استتابةٍ" في حالة من كانوا في الفصائل المسلحة...). كما يلاحقون مخالفات عناصر التنظيم (رفض الأوامر؛ الرشوة؛ الاختلاس...).
كلّ من يعيش تحت سلطة التنظيم متّهمٌ في نظر الأمنيين، كخلايا نائمةٍ أو صحواتٍ، حتى يثبت العكس. ويجري الاعتقال بأية قرينةٍ (كالإشاعة؛ الوشاية؛ الشك؛ اضطراب الشخص عند أحد الحواجز؛ الوجود مصادفةً في مكان تنفيذ الاعتقال؛ ذكر أحد المتهمين لأيّ اسم يجعل من صاحبه متهماً...)، وبأية شبهةٍ، كما يصرّح العناصر أنفسهم. ويسوق هؤلاء المتهم إلى أحد مقرّات الأمن معصوب العينين، ويخبرونه أن قضيته (أمن دولة). وبغضّ النظر عن تهمته، فعند وصوله تُجمع يداه إلى رجليه بالقيد، ويُضرب بالأنابيب والكابلات، ثم يزجّ به -بعد إعطائه لباساً خاصّاً- في إحدى الزنازين، وهي إما جماعيةٌ أو رباعيةٌ أو فردية، لمدّةٍ تطول أو تقصر إلى حين الاستجواب. وقد اتفقت روايات الذين خرجوا من هناك على أن الضرب لم يعد ردّة فعلٍ غاضبة، بل صار يتجه نحو التقنين والتنظيم؛ "رفعوني فلقة وخلّوني أهرول بمكاني"، يقول أحد الذين قضوا أسبوعين لديهم، "وأحياناً يضربوني وبعدها ينزّلوني ضغط –تمرين رياضي– والشرعيّ قاعد يقرش بزر". كما أكد ناشطون لهم تجارب اعتقالٍ "أن الضرب أثناء الاستجواب هو لانتزاع الاعترافات، أما خارجه فهو لإنزال الإهانة أو الانتقام أو لإظهار السلطة". يقوم شرعيّو الأمن بمهمّة التحقيق، ويمارسون، قبل الاستجواب، ولأيامٍ عدّةٍ، الضغوط النفسية على المتهم، بتكرار جملٍ موهمةٍ مثل "اعترفوا عليك"، أو "وجدنا محادثات الواتس أب تبعك".
يُستجوب المتهم وهو معصوب العينين، بحضور كاتب المحضر والجلاد. ويُصوّر في نهاية التحقيق من أجل "الفيش". وفي الحالات البسيطة يُعرض المتّهمون، وقد قضوا ما يقارب العشرة أيامٍ، على القاضي، مرّةً كلّ أسبوعٍ، ليطابق بين المحضر وأقوال المتهم، ويصدر حكمه، الأمر الذي يدعو الشرعيين إلى الخلاف والتنازع على مسمعٍ من السجناء. أما في حالات الإعلاميين والناشطين وقادة الكتائب فيُحالون إلى محاكم خارج المدينة (بعد عمليات تعذيبٍ شنيعة) ثم يُلحقون بالدورات الشرعية (تُدرّس فيها منطلقات التنظيم النظرية). أما السياسيّون فمجهولو المصير، لكن الإشاعة تقول إنهم يرحّلون إلى سجن الموصل.
تزور "لجنة فضّ المظالم" السجون دورياً. وتقوم بعمل محكمة التمييز. وإلى جانب التفتيش القضائيّ تنظر في شكاوى السجناء، وإن كانوا قد تعرّضوا للضرب، في نوعٍ من خداع الذات. فالمعترض ليس إلا رافضاً لحكم الإسلام، في نظر كلّ من له علاقةٌ بالتنظيم. كما أن الاعتراض يُدخل صاحبه في دوّامة الإحالات التي تمتدّ لشهورٍ لا لأيام.