«رجال الكرامة» في السويداء «كانوا رعبا لكل شيء.. كانوا ملوكاً وأصبحوا لاشيء»

رجال البلعوس في بلدة المزرعة - متداولة

شكّل اغتيال وحيد البلعوس (قائد مجموعة رجال الكرامة) في أيلول 2015 بداية النهاية لظاهرة هامة نشأت في محافظة السويداء، وعبرت عن خيار خاص حاولت السويداء اتخاذه يتصدى لمخططات النظام في المحافظة، ومحاولاته لجر أهلها للاصطفاف إلى جانبه.

لا يمكن حصر مجموعة شيوخ الكرامة بشخص قائدها ومؤسسها «وحيد البلعوس» وعائلته، التي لا تصنف ضمن عائلات السويداء الكبيرة، إلا أن مجموعة «رجال الكرامة» استمدت قوتها من انضمام كثير من المجموعات الأهلية المسلحة التي تعرف باسم «البيارق» إليها. شكلت كل قرية أو بلدة أو عائلة كبيرة «بيرقاً» يمثلها، ولكل مجموعة منها راية أو بيرق خاص ترفعه وتقاتل تحت عنوانه، مثل بيارق (النضال والعز والحق والباشا والأدهم والمظفر والخيال) في مدينة السويداء، وبيرقا (الحق والفهد) في مدينة صلخد، وبيرق شهبا في شهبا. أما في بلدة المزرعة التي ينتمي إليها البلعوس فيعمل بيرق «الشيخ وحيد البلعوس». وضمت مجموعات رجال الكرامة بيارق أخرى تعمل في قرى السويداء، مثل بيارق (الفخر والشيخ والمقداد والهرم والنبي داود والكرامة والحازم وسيف الولي والخضر) وغيرها. وضمت بيارق لعائلات كبيرة مثل آل نعيم، التي تعتبر أكبر عوائل مدينة السويداء، وتتمتع بمكانة اجتماعية ودينية في المدينة، وكان لانضمام بيرقها إلى «رجال الكرامة» تأثيراً كبيراً أعطى المجموعة قوة أكبر، وشجع بيارق أخرى على الانضمام إليها.

امتد تأثير «شيوخ الكرامة» إلى جوانب عدة اجتماعية وأمنية وسياسية في المحافظة، وبات يشار إليها بعبارة «ظاهرة البلعوس»، الذي استطاع خلال فترة قصيرة أن يجمع حوله كثيراً من المناصرين، بشخصيته العفوية وخطاباته الصريحة التي تعتبر قريبة من الخطاب الجماهيري، وبعده عن الخطابات السياسية أو الدينية المتكلفة، فكان يتحدث دوماً كما يتحدث أي رجل عادي، ما جعله قريباً من الناس أكثر من سواه. وبدا تأثير بيئة السويداء عليه واضحاً في جميع كلماته، عندما كان يتحدى وفيق ناصر ويتوعد باعتقاله، أو عندما يتحدى الأسد ويهدد باقتحام القصر، أو من خلال حديثه العلني عن تورط الأجهزة الأمنية للنظام بعمليات الخطف وتهريب المازوت والأسلحة والفساد، دون التفاف على الموضوع أو مواربة، ما منحه شعبية إضافية. ازداد تأثير رجال الكرامة بعد إصدارهم قراراً يمنع قوات النظام من اعتقال أبناء السويداء، ويمنع تجنيدهم إجبارياً في صفوفها، ليتجاوز عدد المتخلفين عن الخدمة العسكرية 27 ألف شاب، إضافة لغير ذلك من الحوادث التي جعلته في موضع مواجهة مباشرة مع النظام؛ متحدياً بذلك الصمت المطبق لـ «شيوخ العقل» الثلاثة. حيث أصدرت «مشيخة العقل» مطلع عام 2014 قراراً يقضي بحرمانه ومن معه من حضور المجالس الدينية وممارسة الطقوس والشعائر ضمن ما يعرف بـ «البعد الديني» أو «الحرم الديني»، وذلك على خلفية مقطع مصور يظهر فيه البلعوس مهاجماً سياسات رئيس النظام «بشار الأسد»، ومهدداً بقدرة رجاله على التوجه إلى القصر الجمهوري إذا دعت الحاجة.

مجموعة «رجال الكرامة» لم تكن ضعيفة خلال حياة «البلعوس»، إلا أنها لم تكن منظمة أبداً. فليس هناك وثائق لانتسابهم أو إحصائيات لأعدادهم. كل مجموعة كانت تتكفل بحماية منطقتها مع إمكانية طلب المؤازرة إن دعت الحاجة. لم يستطع البلعوس تقديم السلاح إلى البيارق -التي اعتمدت على نفسها في التسليح- إلا في حالات قليلة جداً، قدم فيها بعض البنادق والرشاشات الخفيفة كان يؤمنها من مناصري الجماعة في فلسطين أو لبنان.

تحسب للبلعوس مواقف عدة أبرزها محاولاته لإغلاق ملف الخطف المتبادل بين درعا والسويداء، ورفض المشاركة ضد فصائل «الجبهة الجنوبية» التابعة للجيش الحر في درعا أثناء معركة مطار الثعلة العسكري غرب السويداء، وموقفه الرافض لزج أبناء المحافظة في صراع سوري سوري، رغم أن كثيرين يأخذون عليه موقفه الحيادي من الثورة السورية، ومحاولته تحييد السويداء عن الانخراط لصالح أي طرف ضد الآخر، كما ينتقده النظام لرفضه مشاركة أبناء السويداء في أي معارك خارج إطار الدفاع عن المحافظة.

بعد أيام من اغتيال البلعوس وإصابة شقيقه الشيخ رأفت، بقيت مجموعة «رجال الكرامة» دون قيادة، ولكنها قامت ب طرد عناصر النظام من المدينة، ومن معظم المقرات الأمنية فيها، وإسقاط أكبر تمثال لحافظ الأسد وسط مدينة السويداء، وجرِه عبر الساحة الواقعة أمام مبنى المحافظة. وبدا أن رجال الكرامة ستعمل على متابعة عملها، وأن هذا الاغتيال سيمنحها دعماً شعبياً يساعدها على أخذ دور أكبر يؤثر على سير الأحداث في المحافظة، خصوصاً عندما تحدث القائد الجديد للمجموعة «رأفت البلعوس» بعد تعافيه، متهما أجهزة استخبارات الأسد باغتيال شقيقه، ومؤكدا أنهم سيتابعون السير على نفس الطريقة.

إلاّ أن ذلك لم يحدث فالجماعة لم تسيطر على المقرات التي أخذتها سابقاً، ولم تنشر نقاطاً لمنع النظام من العودة، ترافق ذلك مع تصاعد دور المجموعات المسلحة الأخرى في السويداء والتي تتبع للنظام، سواء بشكل مباشر كتلك التابعة للأمن العسكري مثلاً، أو بشكل غير مباشر كالمجموعات التي أسسها أشخاص تابعون للنظام مثل نزيه جربوع وغيره. أدى ذلك لاحقاً إلى التراجع المستمر لدور «رجال الكرامة» مع تنامي دور هذه المجموعات وازدياد قوتها، وافتقار رأفت لشخصية شقيقه التي كانت محط جذب للآخرين على الرغم من محاولته في البداية، لكنه لم ينجح بذلك أخيراً،، كما أن الإصابات التي طالته جراء التفجير، يبدو أنها تركت أثرا على صحته يمنعه من العمل بنفس نشاط شقيقه، وصمت «شيوخ العقل» عن المقطع المصور الذي أظهرهم مع وفيق ناصر (رئيس الفرع الأمن العسكري)  الذي اعتبر فيه أنه حصل على تصريح منهم بوجوب إنهاء ظاهرة رجال الكرامة تماماً.

ما زالت البيارق حية وتتبع ل «رجال الكرامة» رغم تراجع نشاطها وتأثيرها بعد رحيل البلعوس، الذي شكل صلة وصل ومحرك في الوقت ذاته للبيارق المنضوية في الجماعة، كذلك كان لرحيل أبرز القادة دور في إضعاف الجماعة، ولم تنجح المحاولات التي بذلها قادة آخرون لإنهاض الجماعة ثانية. ليقتصر نشاطهم في الوقت الحالي على المشاركة في المعارك التي قد تحدث على أطراف السويداء الشرقة والغربية، أو التدخل في حالات قليلة لإطلاق سراح شبان تعتقلهم قوات النظام لسوقهم إلى التجنيد الإجباري، ورغم أهمية هذه التدخلات إلا أنها في غالبية الأوقات لا تعتمد على رجال الكرامة فقط، وإنما باتت تعتمد على أقارب الشاب المعتقل وأصدقائه وأبناء قريته، مع مشاركة بيارق من رجال الكرامة.

ما بقي من «رجال الكرامة» الآن في السويداء، يمكن اعتباره مجرد شتات يصعب جمعه مرة أخرى، إلا أن البحث عن أسباب انهيار هذه المجموعة يمكن أن يقود إلى متاهات ودوائر دون الوصول إلى نتيجة واضحة، إلا أنه من الممكن تلخيص أبرزها بعدة نقاط موجزة.

من أبرز أسباب انهيار الجماعة هو اعتمادها على شخصية البلعوس نفسه، والذي استطاع أن يجذب كثيراً من المؤيدين له عبر طريقته وأسلوبه المباشر، ورغم أن وقوفه نداً للمنظومة الدينية الدرزية المتمثلة بشيوخ العقل كان ضرورياً في ظل تبعيتها للنظام مباشرة، إلا أنه كان مضراً للبلعوس في الوقت نفسه، بسبب اعتبار الكثيرين أن «مشيخة العقل» خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه أو المساس بهيبته.

كذلك كان لأجهزة أمن النظام دورها الواضح في القضاء على هذه المجموعة عبر شيطنتها ووصفها بأنها مثيرة للفتنة، إلا أن أبرز أدوار النظام تمثلت بدعم مجموعات أخرى مناهضة للبلعوس وموالية للدولة، بالتزامن مع التضييق على «رجال الكرامة»، ما أدى لضعف الأخيرة وازدياد قوة الأولى على حسابها، بينما يشير آخرون إلى احتمال تعهد مسؤولين من النظام لـ «رجال الكرامة» بعدم شن حملات للتجنيد الإجباري، مقابل الحد من نشاطات الجماعة، إذ كان إيقاف التجنيد أحد أكبر إنجازات «البلعوس» قبل اغتياله.

ومع كل ذلك، يبرز دور الأطراف التي تعمل خارج السويداء، أو خارج سوريا، وتحديداً في لبنان الذي كان دروزه مرتبطين دوماً مع الدروز في السويداء بعلاقات تصبح أكثر تعقيداً عند النظر إليها، من الأهداف السياسية التي تسعى كل مجموعة لتحقيقها.

اليوم تعيش محافظة السويداء حالة من الفلتان الأمني، تظهر بشكل واضح من خلال عمليات الخطف اليومي، التي بلغ عددها حسب ما وثق ناشطون (370) جريمة خطف في العام الماضي، إلى جانب جرائم القتل والاتجار بالمخدرات وتهريب السلاح وغيرها.

علق أحد أبناء السويداء على تفكك جماعة البلعوس: «كانوا رعبا لكل شيء.. كانوا ملوكاً وأصبحوا لاشيء».

وحيد البلعوس يمين