"حسبة" الميادين تتراجع أمام غارات التحالف ولصوص الدرّاجات النارية في طليعة المستفيدين

من إصدارات التنظيم

مع بدء غارات التحالف أخذت سيارات الحسبة، التي اعتادها سكان مدينة الميادين، بالاختفاء. ولم تعد تُسمع أصوات فراملها حين تتوقف فجأةً للاشتباه بوقوع مخالفةٍ في الشارع، من قبيل ارتخاء نقابٍ أو اشتعال سيجارة، قبل أن تعاود الانطلاق مسرعةً للبحث عن صيدٍ آخر، أو الالتفاف بمهارةٍ بعد القبض على أحدهم متلبساً بتهمةٍ ما. ولم يعد شرطيو دوريات الحسبة يوزّعون نظراتهم الغاضبة من وراء القناع، فقد تغيّر شيءٌ ما -ليس كبيراً بالطبع، لكنه واضحٌ- في سلطتهم. والدليل هو تخلخل حالة الأمن، التي فُرضت بالقوّة والإرهاب، وتسجيل بعض حوادث السرقة والسطو المسلح في المدينة.

قبل سيطرة تنظيم الدولة على الميادين، عاشت المدينة حالةً ملحوظةً من حالات الانفلات الأمنيّ. وسُجّلت عشرات جرائم القتل وحوادث السطو والسرقة، إضافةً إلى شجاراتٍ يوميةٍ في الأسواق المكتظة، وباستخدام كافة أنواع الأسلحة الخفيفة منها والمتوسطة. وأصبحت رؤية مسلحٍ برشاشٍ، وهو يدخل إلى عيادة طبيبٍ أو إلى مطعمٍ، أمراً شائعاً. وكذلك أن يتسلى بضعة شبانٍ بإطلاق زخّاتٍ من طلقات الرشاشات المضادة للطيران، دون مناسبةٍ سوى الرغبة في إظهار القوّة، أو تعبيراً عن فرحة المشاركة في عرس! فضلاً عن المواجهات الدائمة بين العوائل المتقاتلة طلباً للثأر والانتقام، والتي أدّت في إحدى المرّات إلى تعطل الحياة في المدينة ليومٍ كاملٍ تقريباً. ولولا تدخل الهيئة الشرعية يومذاك، وفرضها الأمن بالقوّة وانتزاعها لسلاح الطرفين، لسقط كثيرٌ من الضحايا نتيجة هذا الصراع.
ومع سيطرة التنظــــيم على المدينة، اختفــت مظاهر التـسلح كلها ودفعةً واحدة. فلا شيء يلجـم طيش البعض سوى القوة والتهديد بها وإنزال العقوبة بالمجرمين. وهذا ما فعله التنظيم الذي يُسجّل له ضبط الأمن من هذه الناحية، كما سُجّلت عليه قائمةٌ طويلةٌ من الانتهاكات والجرائم بحقّ أبرياء. تألفت "حسبة" الميادين، بمعظمها، من عناصر من تونس والمغرب، وهم المعروفون بالخشونة والقسوة وفظاظة الطباع بين عناصر التنظيم. وطُعِّمت بقلةٍ من السعوديين أو "الجزراويين" الأكثر لطفاً بالمقارنة مع غيرهم. وأضيف إلى هؤلاء المهاجرين عناصر محليّون من بعض أبناء المدينة والقرى التي عُرف سكانها بمهادنة التنظيم. ويأتي الجهاز الأمنيّ الغامض ليشكل رافد رعبٍ إضافيٍّ للسكان، فعادت إلى الأسماع عباراتٌ من عهد نظام الأسد، مثل "الحيطان لها آذان"، و"البلد مليانة مخبرين"، و"امشي جنب الحيط وقول يا ربي الستر". لكن ثقافة الخنوع المستعادة هذه خرقتها طائرات التحالف بغاراتها شبه اليومية، وما رافق ذلك من عمليات إخلاءٍ للمقرّات وعمليات تمويهٍ واختفاءٍ مؤقت. وكان اللصوص أوّل من استثمر هذا الاختراق.

... الفوضى تتنفس

تقلّص عدد الدوريات اليومية، وتقلّص كذلك حضور عناصر التنظيم بين الناس. ولم يعد مرور سيارة الحسبة أمراً مألوفاً لا يثير الانتباه، كما في السابق، بل ارتبط منذ بداية الغارات الجوية بأهدافٍ محدّدةٍ للقبض على أحد المطلوبين، بوشايةٍ -في غالب الأحوال- ممّن يطلق عليهم عناصر التنظيم صفة "المخلصين"، وهو الوصف المهذّب لفصيلة المخبرين وجواسيس السلطات أياً كانت طبيعتها. وبما أن عدد المخبرين وإمكانياتهم لن يكونا بديلاً عن الحضور المباشر لمشغّليهم، عادت حكايات السرقة والسطو تسمع من جديد. ووقعت حوادث مؤكدةٌ، مثل الهجوم على تاجرٍ أثناء عودته إلى البيت ليلاً، وانتزاع مبلغٍ كبيرٍ كان بحوزته ساعة الهجوم، تحت تهديد السلاح. إضافةً إلى سرقات الدراجات النارية، وسيلة النقل المفضّلة بين أهداف اللصوص الذين تنفسوا الصعداء مع سماع هدير طائرات التحالف في سماء الميادين، في جوٍّ من الاستياء العام من تصرّفات عناصر التنظيم الذين تركوا جبهات القتال مع النظام –بحسب ما يقول الأهالي- وتفرّغوا لمطاردة المدخنين وإحكام تغطية وجوه النساء.
يشعر السكان اليوم بالقلق من مستقبلٍ غامضٍ ينتظر مدينتهم، أمام احتمالاتٍ غير مبشّرة؛ بين بقاء التنظيم وما يعنيه ذلك من مواصلة القمع، وبين رحيله وما يخلفه ذلك من فراغٍ يبدو أن مثيري المتاعب، من فوضويين ولصوصٍ، هم الأكثر استعداداً لملئه.