الرسم للفنان الروسي Aleksandr Gerasimov

تلتقط الكاميرات باحترافية شديدة، وأحياناً بعشوائية، صوراً من مخيمات في الشمال السوري تجرف السيول خيامها المهترئة: يبدو الأطفال خائفين فيما تقف في زاوية الشادر امرأة لا حول لها ولا قوة ترفع يديها إلى السماء داعية (يا الله يا الله..).

تتحرك الكاميرا بسرعة، هنالك إلى العاصمة دمشق، حيث يعود ليرتفع على سارية علم دولة الإمارات العربية المتحدة، بعد أن أعلنت أبو ظبي أنها ستعيد فتح سفارتها التي ظلت مغلقة مدة تجاوزت السنوات الست. يُنتظر أن تعيد دول أخرى فتح سفاراتها، قالت البحرين إنها ستفعل، وسوف ننتظر أن تحذو دول أخرى حذوها، فيما ترصد الكاميرات طائرة تابعة لشركة أجنحة الشام التي تعود ملكيتها لأحد أباطرة الفساد في سوريا (رامي مخلوف)، تهبط بعشرات المسافرين في العاصمة تونس، فيما يبدو أنه استئناف لعلاقات ظلت مقطوعة سنوات.

تتجه الكاميرات شرقاً إلى دير الزور حيث عاد صنم ديكتاتور سوريا السابق ليرتفع من جديد، كانت الكاميرات في أوقات متباعدة قد رصدت عودة الأصنام في حمص وحماه؛ يقال إن تكلفة الصنم الواحد بلغت خمسين مليون ليرة سورية! ليس مهماً ما تبلغه التكلفة، المهم أن تعود الأصنام ويعود العبيد لينحنوا أمامها في مرورهم اليومي في مدنهم المهدمة.. تلتقط كاميرا شاشة موبايل تغريدة لأحد قادة المعارضة وهو يعلن أن عودة السفارات إلى دمشق يمهد لحل سياسي، فيما أيضاً تنتقل الكاميرات مسرعة لترصد حراكاً دبلوماسياً تشرف عليه قوة الاحتلال الروسية، يفتح الطريق أمام ما سوف يعرف بالحل السياسي.

لا تتوقف الكاميرات عن الحركة وهي تلتقط صورة لأوراق تتبعثر في الشمال الشرقي، بعد تغريدة من خمس عشرة كلمة للرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن فيها أن قوات بلاده ستغادر سوريا قريباً، وتلك الـ"قريباً" تفتح الأبواب على احتمالات جديدة، ليس بينها احتمال واحد يقف مع الناس، أي ناس؟

أي ناس؟ ومن يفكر فيهم أصلاً؟ في طبخة البحص السورية لا أحد يفكر إلا فيما سوف تسفر عنه القسمة: من سوف يستقر شمالاً أو جنوباً؟ من سوف يظل في أرضه شرقاً؟ من سوف يكون محكوماً عليه بنزوح وتشرد جديد؟
تلك أسئلة تمهد لعام يبدأ ثقيلاً، ولماذا نقول ثقيلاً؟ أليس علينا أن نتفاءل بالخير كي نجده؟

التقطت الكاميرات، خلسة هذه المرة، مظاهرة في مكان قصي من الجنوب، هناك في درعا التي عاد النظام ليبسط سطوته عليها، درعا التي سوف يسميها السوريون على مدى سنوات سبع ماضيات مهد الثورة، والتي سوف يتم تسليمها دون أن تطلق فيها طلقة واحدة، ففصائلها باعتها كما سيدون ذلك مؤرخون مجتهدون، وتنازلت عن ثورتها مقابل مبالغ مالية تلقاها قادة سوف يظهرون تباعاً وهم يركبون سيارات فاخرة، ويعلنون افتتاح مشاريع استثمارية لن يسألهم أحد من أين لكم هذا؟ فالجميع يعرف...

لكن تلك المظاهرة، سيضاف إليها جنوباً أيضاً كتابات ظهرت على بعض الجدران في مدينة السويداء، تلك المدينة التي ظلت بعيدة عن كل ما جرى تقريباً، كتابات تذكر بسيرة الثورة الأولى، ألا يدفعنا هذا للتفاؤل ولو قليلاً؟

لم لا؟

فلنفكر، بإيجابية قليلاً، هل تموت الثورات؟ الإجابة التي تقدمها لنا كتب التاريخ تقول: إنه لم يحدث أن ماتت ثورة أبداً، فالثورات يخفت بريقها سنوات، ربما، لكنها تعود للاندلاع من جديد، يشبهونها بنار تحت رماد... في الشهر السادس من عام 2012 رصدت الكاميرا صورة لامرأة من مدينة إنخل ترفع صوتها عالياً وهي تقول: أنت مجنون يا بشار، هل سمعت عن ثورة عادت إلى الوراء، هذه ثورتنا وسنمضي بها طال الزمن أم قصر... لا ندري إن كانت تلك المرأة ما زالت حية أم أنها غادرت الحياة تحت أنقاض منزل ما... لكن كلماتها تلك لا بد أن تظل ملازمة لنا...

ماذا ننتظر حقاً؟
حل سياسي يتم طبخه على نار هادئة ليعود رأس النظام سيداً مطلقاً تباركه معارضة مصطنعة، وتعود سوريا مزرعة مغلقة تحكمها العصابة نفسها التي حكمتها نصف قرن من الزمن، وهي تعد العدة ليستمر حكمها عقوداً أخرى...! يبدو الفتى المثير للسخرية حافظ الثاني مستعداً تماماً ليضع على رأسه التاج الذي وضعه من قبله أبوه وجده، وتبدو الدول التي كانت تدعي صداقة الشعب السوري مستعدة للقبول بصفقة بقاء عائلة الأسد حاكمة إلى الأبد، لكن هل يبدو الشعب السوري مستعداً؟

من هنا ينبغي التأسيس لثورة لا تقع في تلك الأخطاء التي وقعت فيها الثورة الأولى، ولكن هل ثمة ثورة ثانية؟ يتساءل سوري يبدو حتى اللحظة غير قادر على استيعاب فكرة الخيبة، ولم لا؟ الثورة فعل لا يتوقف، هكذا تقول كتب التاريخ، وهذا ما علينا أن نتعلمه.
عام 2019 سيأتي محملاً بخيباتنا، ولكن لماذا لا تتحول تلك الخيبات إلى ردة فعل، نعيد فيها تنظيم ثورتنا بعيداً عن الممولين والبائعين والمتاجرين بنا؟