اللثام... علامة القوّة والفداء أم وسيلةٌ لممارسة التشبيح؟

اللثام هو ما كان على الفم من غطاء الوجه. ويطلق اليوم على غطاء الوجه بكامله، أي القناع. وله رمزيةٌ كبيرةٌ في التاريخ العربيّ الإسلاميّ، والتاريخ العالميّ كذلك؛ فقد ارتبط بمعناه الإيجابيّ بالثورة والتمرّد والعصيان، كما ارتبط بمعناه السلبيّ باللصوصية والإجرام والخروج على المجتمع وقطع الطرق.

وللثام علاقةٌ وثيقةٌ بالحياة العربية الإسلامية القديمة التي حكمتها ظروفٌ بيئيةٌ قاسية. ولم تكن إذ ذاك حاجةٌ لتبرير اللثام، فقد كان يعادل لبس الكنزة القطنية تحت الملابس اليوم. وكانت عادة اللثام مرتبطةً ارتباطاً وثيقاً بارتداء العمامة، إذ كان الناس يتلثمون بطرفها. وحين قيل "متى أضع العمامة تعرفوني" كان القصد: أنزع طرف العمامة عن وجهي. ومع تقدّم الحياة واتساع المدن واتجاهها نحو الاستقرار، بدأ اللثام يختفي كعادةٍ اجتماعية، بينما ظلّ مرتبطاً بالسفر والتنقل، كعادة البدو حتى يومنا هذا. ولكنه عاد إلى الظهور في مدينةٍ كبيرةٍ كبغداد العصر العباسي، ليعبّر عن ظاهرة تنظيم اللصوص والنشالين لأنفسهم في ما كان يسمّى العيّارين، الذين كان ظهورهم مؤشراً على تردّي الاوضاع. بينما كان اللثام مصدر فخرٍ عند فئةٍ أخرى، تحاول تغيير الواقع باستخدام القوة، وتتحمل لذلك الصعاب. وهو ما يعبّر عنه المتنبي بقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ            كأنهم من طول ما التثموا مردُ
وفي عصــــرنا الحـــــالي، ارتبـــــط اللثام بالمقاومة الشعبية، حتى صار رمزاً للمقاومة الفلسطينية على سبيل المثال؛ كما ارتبط بالأنظمة الاستبدادية والديمقراطية على حدٍّ سواء، متمثلةً بالتشكيلات التي تستعملها للحفاظ على الأمن القوميّ ومكافحة الإرهاب. وفي الثورة السورية تأرجح اللثام بين انتشارٍ وانحسار، منذ بدايتها السلمية حتى اليوم. فقد لجأ إليه البعض في البداية خوفاً من المخبرين (العواينية)؛ لكن توجس البعض الآخر منه، ومن استعمال المخبرين له كذلك، جعلهم يصرّون على نزعه عن وجوه الجميع. وبالنظر إلى التداخل السكانيّ في مدينةٍ كدير الزور، يبقى اللثام ضرورياً بالنسبة إلى البعض. وعن ذلك يقول باسم، وهو أحد المقاتلين عند حاجز مدخل المدينة: "نلقي القبض أحياناً على عناصر من الشبيحة (الجيش الوطنيّ) يحاولون الدخول إلى المدينة. فإذا اكتشفت هوياتنا سيتعرّض أقاربنا في الجورة لخطر الانتقام. كما أننا نتصدّى لمحاولات اللصوص والمقاتلين الفاسدين إخراج أغراضٍ مسروقة - ومدينتنا صغيرةٌ ونعرف بعضنا - وما من شيءٍ في هذه الظروف يمنع هؤلاء من اغتيال أحدنا".
أما شاهر، الذي نزع اللثام حديثاً، وهو قائد مجموعةٍ في إحدى الجبهات، فيقول: "إن ارتداء عناصر بعض الفصائل للثام، وإثباتها جدارةً في القتال، وتحوّله إلى رمزٍ لبعض الكتائب التي تمثل
عند فئةٍ من الناس محاولةً لتغيير المجتمع بكامله؛ كل ذلك جعل من اللثام موضةً دارجةً ساقت وراءها شريحةً واسعةً من الشباب المتحمّس".
أما أبو جعفر، وهو ناشطٌ في المدينة، فيرى أن اللثام قد تحوّل إلى أداةٍ للتخويف والقمع والتشبيح باسم الثورة، فأصبح يستثمر من قبل الكثيرين، كما كانت النظارات الشمسية السوداء تستثمر من قبل عناصر الأمن في السابق لابتزاز مظاهر التبجيل والاحترام الكاذبين، وفرض الرهبة الوهمية، وبالتالي النفاق، وكذلك أصبح اللثام. بل تعدّى الأمر ذلك حين منح اللثام حيزاً واسعاً للعابثين وتجار الأزمات لممارسة الخطف والاعتقال والإخفاء القسريّ دون تهمٍ واضحة، وهو ما انتشر في الفترة الأخيرة على نطاقٍ واسع".
وعند سؤال أحــد القانونييــن المهتمين بالشأن العام عن رأيه بالموضوع قال: "لا تستطيع أن تحاسب الناس على ما يلبسون، إلا إن ترتب على ذلك مضرّة. وفي ظل الظروف الحالية، فإن الناس تستطيع استصدار قرارٍ من الهيئة الشرعية - على غرار ما حصل في أماكن أخرى - تمنع فيه ارتداء القناع داخل المدينة؛ وتحصر ارتداءه بعناصر الكتيبة الأمنية، كإجراءٍ مؤقت، على أن يكون رئيس الدورية مكشوف الوجه".
فهل بإمكان الهيئة اتخاذ إجراءٍ كهذا، في حين أنها لم تستطع الوقوف في وجه ظواهر أخطر من اللثام بكثير، كالحدّ من المظاهر المسلحة بين المدنيين؟