واجبات على الإدارة المحلية القادمة في دير الزور

مدينة ديرالزور - خاص عين المدينة

سترحل داعش عن دير الزور مخلفة خراباً هائلاً لكل أوجه الحياة فيها. تفرض تركة داعش هذه مهمات ثقيلة على أي منظومة حكم مدني تتأسس لإدارة المحافظة. ولا يمكن لمنظومة الحكم تلك أن تؤدي مهماتها إن لم تكن قد أعدت مسبقاً دراسات وخططاً تنفيذية تحتم طبيعة المعركة أن يتألف برنامجها الزمني من مرحلتين؛ تبدأ الأولى مع انطلاق المعركة وتنتهي بانتهائها، لتبدأ الثانية.

مأوى وغذاء ودواء

تستهدف المرحلة الأولى، المزامنة للعمليات العسكرية، شريحة الهاربين من أهوال الحرب التي ستتصاعد فوق ما هي متصاعدة الآن، بعد بدء المعركة. يقدر عدد المتبقين اليوم من سكان دير الزور فيها بنحو 400 إلى 500 ألف نسمة، يضاف إليهم نازحون من مناطق سورية –وعراقية- أخرى. تقلص موجات النزوح الحالية عن دير الزور هذه الأعداد ويبدو خط سيرها واضحاً، من المناطق الخاضعة لداعش في دير الزور إلى الحسكة الخاضعة لقسد إلى ريف حلب المحرر، حيث تتفرغ بين من يحاول التسرب إلى الأراضي التركية ومن يؤثر البقاء. على الأرجح لن يحظى هؤلاء بالخدمات التي يمكن لمنظومة الحكم المفترضة أن تقدمها، لأن هذه المنظومة ستكون أسيرة المانحين الدوليين المشغولين بالبقعة الجغرافية المباشرة في دير الزور وجوارها القريب. من المرجح أن يتغير خط سير النازحين من دير الزور بُعيد إطلاق معركة تحريرها. ويصعب على من يريد الآن بناء تصورات عددية مستقبلية تقدير النسبة الباقية من السكان وما يصدر عنها من نازحين، لكن من السهل تحديد نوع الرعاية العاجلة التي يحتاجون إليها متمثلة بالمأوى المناسب والغذاء والرعاية الطبية. يجب أن تراعي الفرضيات التي يقوم عليها التخطيط لتلبية تلك الاحتياجات المستقبلية تغير حركة النزوح بين وقت وآخر بتغير خرائط السيطرة. فلن يطرد التنظيم من محافظة دير الزور في نهار وليلة، بل قد يستغرق ذلك شهوراً تتآكل خلالها سيطرته بالتدريج، وتخرج عنها القرى والبلدات تباعاً، وستكون هذه المناطق الحضرية بعد تحريرها هدفاً مفضلاً لدفعات النازحين. وعلى هذا يجب أن تتمتع خطط الإيواء والإغاثة والرعاية الصحية الإسعافية بالمرونة وسرعة التنفيذ لتستوعب التغيرات، خاصة إن كانت غير متوقعة. ويجدر التنبيه هنا إلى أهمية الجانب الأمني في هذه المرحلة، اذ سيحاول المئات من عناصر التنظيم التسلل هرباً ضمن جموع النازحين، ما يوجب التخطيط منذ الآن لمعالجة هذه الظاهرة، والتشدد في تطبيق الإجراءات الأمنية دون إخلال باحترام النازحين وحفظ حرياتهم.

الخطوات الأولى نحو الاستقرار

بعد رحيل داعش ستورثنا اقتصاداً منهاراً ومجتمعاً منهكاً وبنى تحتية شبه مدمرة. جبهات العمل الأولى التي يفترض بالمجالس المحلية التصدي لها على وجه السرعة تبدأ بالخدمات العامة والصحة والتعليم والأمن والقضاء. تحديث قواعد البيانات باستمرار شرط لا غنى عنه لإعداد خطط الطوارئ، ففي لحظة قد ترتفع درجة الأضرار، وقد تلحق عمليات التفخيخ التي تقوم بها داعش للمنشآت العامة -إن لم تُفكك- أضراراً جديدة بمنشآت خرجت سالمة جزئياً أو كلياً من الحرب.

في قطاع مياه الشرب تقول تقييمات الوضع الراهن إن 100 من أصل 110 محطة تصفية مياه تقريباً في محافظة دير الزور سلمت، حتى الآن، من معدلات أضرار تخرجها عن الخدمة. ويقول مهندسون مدنيون إن خطة الإقلاع المفترضة ستنطلق، في مرحلتها الأولى، من محطات منتقاة على أساس توزع جغرافي يلبي حاجة التجمعات السكانية الأكبر. ويمكن، حسب قولهم، الانتهاء من أعمال الصيانة في تلك المحطات وشبكات أنابيب التغذية المرتبطة بها ثم استعدادات التشغيل خلال أيام، إن توافرت لوازم الصيانة والفرق الفنية ومواد التشغيل من وقود لمحركات الضخ (بديلاً عن التيار الكهربائي) ومادة الكلور لتعقيم المياه.

مشكلة الطاقة الكهربائية في دير الزور أكبر وأعقد من القدرات الموضوعية لمنظومة حكم محلي، لارتباطها بنظام توليد وتوزيع وطني أوسع. رغم ذلك يمكن البحث عن حلول جزئية تركز على إعادة تأهيل محطة توليد في حقل العمر النفطي وأخرى أصغر في حقل التيم، للاستفادة من أي استطاعات منتجة منهما في تزويد بعض المنشآت الحيوية بالتيار الكهربائي.

رصد تقرير سابق لـ«عين المدينة» تجربة الخدمات الصحية الحرة في دير الزور، وخلص إلى أنها كانت فعالة ومؤهلة إلى حد كبير لتكون بديلاً عن منظومة الصحة الحكومية السابقة. لاحقاً، وكما هو معروف، أجهضت هذه التجربة على يد داعش. يمكن الاستفادة اليوم من تلك التجربة ولكن بشكل جزئي، نظراً للتغيرات الهائلة التي لحقت بالمشهد، إذ رحل مئات العاملين في المجال الطبي، ويصعب تقدير نسب العائدين المحتملة منهم بعد التحرير. تمثل هذه الظاهرة أحد أخطر العقبات التي ستواجه الجهاز الصحي الوليد، إلى جانب ما ألحقته وستلحقه الحرب من تدمير منشآت ومراكز صحية عامة، فضلاً عن عبث الدواعش وديوان صحتهم خلال السنوات الثلاث السابقة، الذي أسهم في تعطيل تجهيزات طبية مركزية لم يدمرها القصف.

يقدّر خبراء في قضية التعليم شهراً من الزمن، بعد رحيل داعش، لتفتتح أول المدارس في دير الزور. تبدأ خطة الطوارئ المقترحة بثلاثة إجراءات متزامنة في المرحلة الأولى، وهي استقطاب الكادر التعليمي المطلوب وإخضاعه لدورات تحضيرية قصيرة، وإجراء عمليات مسح إحصائي تحدد أعداد الأطفال وأعمارهم ومحلات إقاماتهم، وصيانة أبنية مدرسية منتقاة وتجهيزها بما يلزم، حسب توزع جغرافي يغطي أوسع نطاق ممكن للتجمعات السكانية. ينبغي أن تنطلق العملية التعليمية في 100 مدرسة على الأقل في المرحلة الأولى. ستؤدي هذه المدارس بكوادرها البشرية أدواراً عدة في آن واحد، نظراً للحاجة لأكثر من برنامج في التعليم وفي إعادة تأهيل الأطفال واليافعين لمحو الآثار النفسية والسلوكية والثقافية التي تتركها داعش في شرائح عمرية مختلفة في سن التعليم.

بعد داعش، يقول قضاة سابقون إنه يجب على وجه السرعة تأسيس محكمة خاصة بعناصر التنظيم، والبدء بأول الخطوات العملية نحو بناء جهاز قضائي. تتمثل تلك الخطوات بعملين متزامنين هما تأسيس نيابة عامة تتولى التحقيق في الجرائم المرتكبة وتأسيس محاكم جزاء، إلى جانب إنشاء شرطة قضائية وشرطة مدنية كأدوات تنفيذ، على أن يكون الهدف المنشود في عملية بناء هذا الجهاز هو الوصول به إلى ما كان عليه الحال قبل الثورة بأنواع الاختصاص والعدد والتوزع الجغرافي. 10 إلى 15 قاض يستطيعون إطلاق العمل وإدارة المحاكم خلال المرحلة الأولى التي قد تستغرق ستة أشهر إلى عام كامل.

الزراعة

جغرافياً تتألف محافظة دير الزور من ثلاثة قطاعات ريفية، هي الخطان الغربي والشرقي في وادي نهر الفرات والخط الشمالي في حوض الخابور. على فرض أن مساحة الأراضي الزراعية الخارجة عن الخدمة، لتملح تربتها، ما تزال محدودة، يتطلب استئناف الإنتاج الزراعي صيانة عاجلة لمنظومات الري التي تعرضت لأضرار متفاوتة بين منطقة وأخرى، كما يتطلب أيضاً توفير مستلزمات الإنتاج من بذار وأسمدة وأدوية زراعية وغيرها. ويجب إحياء الجمعيات الفلاحية في الأجزاء التي لم تشملها مشاريع الري الحكومية السابقة وظلت تعمل وفق نظام الجمعيات. وإلى جانب الزراعة لا بد من التفكير الجاد واقتراح حلول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الثروة الحيوانية التي تعرضت لتآكل فظيع لعوامل مختلفة خلال السنوات السابقة، نظراً لما تمثله هذه الثروة من أهمية كبرى في الاقتصاد الريفي بدير الزور.

النفط

تتمتع محافظة دير الزور بثروة باطنية شكلت في عقود ما قبل الثورة أحد الأعمدة الرئيسية للثروات الوطنية في قطاعي النفط والغاز. يمكن القول اليوم إننا أمام دمار كامل لحق بالبنية التحتية لنفط دير الزور، الذي تتركز منابعه الهامة في المربع الواقع شمال شرق المحافظة، الذي يضم، إلى جانب آبار حقلي العمر والتنك التابعين لشركة الفرات النفطية السابقة، آباراً أخرى تتبع شركة دير الزور للنفط، فضلاً عن آبار غازية ذات إنتاجيات ضخمة قريباً من معمل معالجة الغاز المعروف بـ«كونيكو» (انظر: نفط دير الزور من الثورة حتى تنظيم داعش). خطة الطوارئ، في مرحلتها الأولى، ينبغي أن تأخذ بحسبانها احتمال أن يشعل التنظيم آبار النفط، وأن تحضّر فرق إطفاء مختصة بهذا النوع من الحرائق، ثم عليها أن تحتاط من أي تعديات من قبل بعض المجموعات العشائرية في عودة إلى سلوكها بعد الثورة.

ولأن استثماراً مثالياً للنفط لا يمكن الا أن تقوم به شركات دولية يتطلب التعاقد معها قدرات وشرعية قانونية لا تتمتع بها منظومات الحكم المحلية الوليدة، فإن عليها أن تلجأ إلى أساليب عملية لاستثمار ما يمكن استثماره من النفط اعتماداً على الكوادر المحلية ذات الكفاءة والخبرات السابقة، وبما هو متوفر من لوازم صيانة، ووفق خطة تسويق لا تتعدى الاستهلاك المحلي وجزءاً من الفضاء المجاور في المحافظات السورية الأخرى.

خريطة تبرز المنشآت والمواقع النفطية في محافظة دير الزور