نساء سوريات.. في مواجهة إصابات الحرب

من مخيم لبيك بالقرب من مدينة سرمدا - بعدسة الكاتبة

تعرّضت الكثير من النساء السوريات لإصابات الحرب، بدءاً من الإصابات الخفيفة وبتر الأطراف وصولاً إلى الإعاقات الدائمة، تزامناً مع نقص الأدوية والرعاية الصحية، ما أجبرهن على الحياة ملازمات للمنزل، ومنعزلات عن العالم الخارجي، وعاجزات عن القيام بواجباتهن تجاه الأولاد، فيما تمكنت أخريات من تجاوز الإعاقة وعيش حياتهن بشكل طبيعي.

تشعر المرأة ذات الإعاقة بالعجز عن أداء جميع المهام الملقاة على عاتقها، والاهتمام بالبيت والزوج، ورعاية الأولاد، مما يجعل معاناتها مضاعفة، وتقع بين أوجاع الجسد والضغوطات النفسية التي قد يكون تأثيرها أشد من آلام الجروح .

منار البصاص (25 عاماً) من معرة النعمان أصيبت منذ ثلاث سنوات جراء غارة جوية من الطيران الحربي على منزلها في المدينة، حيث أصابتها شظية في الظهر، وأدّت لشلل نصفي دائم.

لم تعد منار قادرة على الحركة نهائياً بعد إصابتها، وتلازم السرير بشكل دائم، فلا حركة إلا للتقلّب جنباً إلى اليمين واليسار خوفاً من أن يتسبب الفراش بجروح لجسدها.

تتحدث منار لـ“عين المدينة“ عن معاناتها بالقول: "أصبت بتاريخ 12 من شهر تشرين الثاني عام 2017، حيث كان زوجي في العمل، بينما بقيت في المنزل مع ابنتي الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها ستة أشهر آنذاك، وفجأة سمعت دوي انفجار مرعب في ساحة المنزل، تبين لي لاحقاً أنه صاروخ من طائرة حربية.. اخترقت الشظايا باب الغرفة التي أجلس فيها، فأصابت جسدي بجروح، بينما استقرت إحداها في ظهري، فغبت عن الوعي ولا أذكر إلا وجودي في المشفى برفقة أهلي وزوجي، وكان السؤال الأول بعد استعادة وعيي، هو عن ابنتي، وحمدت الله أنها لم تصب بأي أذى، ولكن الخبر الذي انهال علي كالصاعقة هو أنني لن أتمكن من المشي بسبب الإصابة، ريثما أستعيد عافيتي“.

تؤكد منار أنها بدأت رحلة علاجها، لتستعيد قدرتها على المشي، وبعد عدة عمليات جراحية، لم تجد أي تحسن، بل استقر بها الحال على كرسي متحرك.

تتابع منار الحديث وهي تحاول أن تحبس دموعها: "دائماً أتخيل نفسي أمشي وأتنقل في أرجاء المنزل، حتى في أحلامي يلازمني هذا الأمل، وأتألم كثيراً بسبب تقصيري تجاه زوجي وابنتي، الأمر الذي جعلنا نترك منزلنا ونتوجه للسكن في منزل أهل زوجي، لعدم قدرتي على القيام بواجباتي المنزلية كما كنت في السابق“.

إن كانت منار قد حصلت على دعم زوجها وعنايته بعد إصابتها، فالكثير من المصابات يتعرضن للتهميش والإهمال، ومنهن من يتخلى عنهن أزواجهن ليجدن أنفسهن فجأة بين الإعاقة وقلة الوفاء، منهن أم عمر (33 عاماً) من مدينة سراقب، أم لأربعة أولاد، أكبرهم في سن الرابعة عشرة، تعرضت لبتر قدمها اليمنى نتيجة إصابتها بشظية قذيفة، فتخلى عنها زوجها، وتزوج من امرأة أخرى، وسافر برفقتها إلى تركيا، تاركاً وراءه زوجته وأولاده لمصيرهم، وعن ذلك تقول أم عمر لـ“عين المدينة“: "كنت في السوق الشعبي أنتظر زوجي الذي ابتعد قليلاً لشراء بعض الحاجيات، وفجأة سقطت قذيفة على مقربة مني، فوقعت أرضاً، وحاولت الزحف للابتعاد عن المكان، لكن الألم الذي كنت أشعر به يفوق الوصف، وبعد أن انقشع الغبار والدخان، حاولت الوقوف فلم أستطع، ثم تفاجأت بقدمي مبتورة ومرمية بجواري“.

تؤكد أم عمر أن زوجها كان يزورها في المستشفى بين الحين والآخر، وبعد خروجها طلب من أهلها أن ينقلوها إلى منزلهم للعناية بها، وتذكر أنه زارها مرة واحدة، قبل أن تنقطع أخباره بشكل نهائي، لتعلم لاحقاً أنه تزوج من امرأة أخرى، وسافر برفقتها إلى تركيا، وتخلى عن أولاده الأربعة الذين وجدوا أنفسهم بين أم معاقة لا حول لها ولا قوة، وأب مستهتر وأناني وعديم المسؤولية“.

تنفق أم عمر على نفسها من تبرعات أهل الخير، وتستلم حصة غذائية بشكل شهري من إحدى المنظمات الإنسانية تعينها على متطلبات الحياة.. "لم يعد لحياتي أي معنى، فأنا أشعر بقلق دائم من المجهول، والخوف من المراقبة المستمرة من الآخرين، إضافة إلى شعوري بالإحباط والتشاؤم والرغبة بالوحدة والعزلة عن الآخرين”.

بالمقابل لم تستسلم نساء كثيرات للإعاقة، ولم يقبعن خلف الجدران منتظرات نهاية حياتهن، بل حاولن التأقلم معها ومعايشة الواقع الذي فُرض عليهن، متحديات بعزيمتهن جميع العثرات التي تقف عائقاً في طريقهن.

رانية الكردي (35 عاماً) نازحة من مدينة خان شيخون إلى مخيم عشوائي في مدينة سرمدا الحدودية مع تركيا، تعمل رغم إعاقتها بمساعدة ابنتها لتنفق على أبنائها الثلاثة بعد تخلي زوجها عنها، وعن ذلك تقول: "أصبت منذ سنتين ببتر يدي اليسرى جراء غارة حربية على منزلنا، وأصبحت أجد صعوبة كبيرة في إنجاز أعمال المنزل، وبعد عام من إصابتي تركني زوجي بحجة أنني غير قادرة على الاهتمام به“.

لا تنكر رانية أن الأمر كان صعباً عليها في البداية، لكنها أصرت على عيش حياتها بشكل طبيعي، وأخذ دور الأم والأب في حياة أولادها، وعن ذلك تقول: "أحمد الله أنني أتقن مهنة الخياطة، كما استخدمت برنامج "اليوتيوب" لتعلم بعض القصَّات والموديلات الحديثة، واستخرجت مكنة الخياطة التي أملكها حيث قمت بتنظيفها وإصلاحها، وبدأت العمل بمساعدة أختي التي تُعتبر من المبدعات في المهنة أيضاً، وابنتي البالغة من العمر 15 عاماً التي تحاول تعلم المهنة في وقت فراغها بعد إنجاز واجباتها المدرسية، وبعد وقت قصير أقبلت على عملنا بعض الجارات والقريبات، ثم أصبح لنا اسم جيد ومعروف في المخيم الذي نعيش به، ومحلات بيع الملابس المجاورة“.

وتتابع رانية: "أستطيع أن أنفق على نفسي وأطفالي الثلاثة من مردود عملي، ولا أحتاج مساعدة أو شفقة من أحد، وسأسعى ليكمل أولادي تعليمهم مهما كانت الظروف“.

تبين رانية أنها تتمنى أن تحصل على طرف صناعي ذكي من خلال الجمعيات الخيرية، فلا قدرة لديها على دفع ثمنه الذي قد يصل إلى آلاف الدولارات، ويُعتبر تأمين هذا المبلغ شبه مستحيل بالنسبة لها.

رانية كغيرها من المبتورين في إدلب لا يملكون ثمن العلاج لإصاباتهم، أو تكاليف تركيب الأطراف الصناعية، إضافة إلى عدم توفر هذه المستلزمات في محافظة إدلب، الأمر الذي يجبر المصابين للسفر إلى تركيا لتأمينها.

كذلك الطفلة روان الباكير (10 سنوات) نازحة من مدينة سراقب إلى مدينة إدلب، لم تستسلم لإصابتها، حيث تذهب بقدم واحدة وعكازين إلى مدرستها كل يوم، وعن ذلك تتحدث بالقول: "أذهب إلى المدرسة كل يوم رغم الألم الذي أشعر به، وأتمنى أن أصبح طبيبة في المستقبل لأداوي الأطفال الذين أصيبوا مثلي“.

تشير روان إلى أن بعض زملائها يسخرون منها، ويراقبون حركاتها، وتقول إن البكاء كان يغالبها في البداية، لكنها اليوم لا تبالي بكلامهم، ولا تهتم لأمرهم. 

تكابد نساء كثيرات في إدلب لمواجهة حياة باتت أصعب بعد أن تسبب قصف النظام السوري وحلفاؤه في بتر أجزاء من جسدها فأرداها عاجزة عن الحركة، وتختلف المعاناة من امرأة لأخرى، إلا أنها تجتمع عند حقيقة أن هذه الفئة الهشة تعد الأكثر تضرراً وتعرضاً لارتدادات الواقع المرير وقسوته.