مهنة الحلاقة السورية في أردأ أزمنتها.. زبائن غير مبالين وصالونات حلاقة غاب عنها الشغف

دورات تعليم الحلاقة للشباب في إدلب

في الجزء الثاني من روايته درب الآلام تحت عنوان "عام 1918"، يتحدث الكاتب الروسي ألكسي تولستوي عن اللحى الطويلة غير المشذبة والشوارب المتدلية للمواطنين الروس كنوع من اللامبالاة التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى من جهة، ثم الحرب الأهلية التي وقعت روسيا في أتونها بعد أكتوبر 1917 على يد البلاشفة من جهة أخرى. لحى طويلة جداً غابت عنها النظافة، اعتاد الفلاحون والجنود والبحارة وصانعو الكباب وعصير الليمون على العبث بها وهم يتكلمون عن الثورة والحرب وروسيا التي تعرضت للخراب والتقسيم المؤقت واستقطاب القوى الحمراء والبيضاء في عالم لم يخرج بعد من جحيم الحرب العالمية الأولى.

 هذه الصور التي يعرضها تولستوي تبدو واضحة جداً في سوريا اليوم، إذ يدرك المرء منذ الوهلة الأولى أن مظاهر التقشف طاغية جداً بين مختلف فئات السوريين في قطاعات السيطرة الرئيسية الثلاثة المنقسمة.

إرخاء الشعر واللحية وإطالة الشارب دون عناية، بينما ينتفش الشعر الذي لم يحلق ربما منذ شهرين أو ثلاثة على الرؤوس بلا تسريح؛ تفاصيل صغيرة لكنها مؤلمة تبرز كأحد معالم القسوة التي يعيشها السوريون في ظل الحرب والتي قادتهم إلى الابتعاد عن الأجواء القديمة التي كانت سائدة في مهنة الحلاقة؛ حينها كانت طقوس الحلاقة بكل ما فيها من جزئيات بسيطة محببة إلى النفس تشكل نوعاً من الرفاهية المؤهلة للتطور بفعل التقدم التكنولوجي، ولا يزال بعض السوريين يحنون إليها.

 زمن الحلاقة الضائع

بين استعمال الماكينة اليدوية التي كانت إحدى أدوات الحلاق السوري القديم، والهواجس التي تنتاب حلاق اليوم حين يستخدم ماكينة حلاقة حديثة من إمكانية توقفها عن العمل في أي لحظة لعدم شحنها بما يكفي، تجثم بضعة عقود من الزمن يمكن القول بأنها تشكل بالنسبة إلى سوريين عديدين أرقى أزمنة الحلاقة.

 كانت الأدوات المستخدمة حديثة وناعمة: كريم هامول للذقن، شفرة ملساء، مقص رشيق مثل عود البان يطقطق على شعر الزبون بصوت عذب ومحبب. أما الماكينات الكهربائية فحدث ولا حرج: فتلك لحلاقة السالف، وهذه لتنعيم الذقن، وهاتيك لتشذيب الشارب، وأخرى لتنعيم الخدين.

وما الذي يحكيه المرء عن الخدمات التي كان يقدمها الحلاق من حمام الزيت إلى جلسة تسبيل الشعر، وحتى تنظيف البشرة على البخار: كل واحدة من هذه الخدمات كانت تعد تفصيلاً متناغماً في عالم الحلاقة الذي كان يجذب الشبان بالطبع لا الشيّاب، فقد كان لهؤلاء محلات خاصة ولا تزال، يصرون من خلالها على التمتع بأجواء زمنهم الجميل، ولكل جيل زمن جميل. بعض حلاقيهم كان لا يزال -حتى فترة قريبة من اندلاع الثورة السورية- يستعمل ماكينة الحلاقة اليدوية التي كانت تشكل كابوساً من الرعب لجيلنا في صغره، إضافة إلى الموسى القديم الذي يتكون من قطعة واحدة يسن بقطعة جلد خشن، ثم ينزلق بيد الحلاق على الخد الخشنة كالذي يقشر برتقالة أو تفاحة.

 عاد الموسى القديم إلى الاستعمال في فترة الحصار بريف دمشق بين عامي 2012 و2016. كان الحلاقون يستعملونه بنفس الطريقة القديمة نظراً إلى عدم وجود شفرات الحلاقة ال"بيك"؛ وفي كل تجربة حلاقة وقتها كنت أخرج بجروح كثيرة لا تكاد تبرأ حتى تعاود البروز مجدداً مع حلاقة جديدة، وكان الحلاق يعالجها برش كميات كبيرة من الكولونيا التي تحرق البشرة، فأبيت ليلتي متألماً من هذه ومن تلك.

 كاركتر قديم وآخر عصري

لم يتسنَّ لجيلي وربما الجيل الأسبق أيضاً رؤية الحلاق/الطبيب الذي تستعرضه الدراما السورية بحضور مكثف للحكيم بمعنى الطبيب والجراح وقالع الأضراس و"مطهر" الأطفال والصيدلاني الشعبي صانع الأدوية والخلطات المختلفة من الأعشاب.

هذا الكاركتر للحلاق الذي تعرفنا إليه من التلفزيون وكتب المذكرات الشخصية بدأ بالانزياح منذ بدأ السوريون دراسة الطب بداية القرن العشرين في أوروبا، ثم إنشاء المعهد الطبي الذي يعد نواة جامعة دمشق وما نجم عنه من تزايد عدد الأطباء.

 على أن جيل التسعينات ونهاية الألفية الثانية (الذكور طبعاً) لا بد وأنهم توجعوا يوماً ما في صغرهم من مقص أحد الحلاقين، وبذلك كانوا شهوداً على اندثار آخر تفصيل في شخصية الحلاق القديم الذي ختنهم.

 استبدلت المهنة القديمة للحلاقة بمهنة جديدة لا علاقة لها بنظيرتها القديمة إلا في جزئية قص شعر الرأس وحلاقة شعر الوجه. هكذا خرجنا من فكرة الحلاق الموسوعي ذي القدرات والإمكانيات الشاملة إلى الحلاق العصري المتخصص بعضو واحد من جسم الإنسان وهو الرأس، لكن مع تطور لافت في الأدوات والخدمات اللامتناهية التي تهدف جميعها إلى خدمة هذا العضو فقط لاغير.

 صار رجل بمريول أبيض وتسريحة شعر عصرية يقف في مكان واسع وأنيق ومكيف، يقص شعر أحد الزبائن كما يشرف على  مجموعة من الحلاقين الثانويين أو الأجراء، فيما تعددت كراسي الحلاقة الوثيرة التي تتحرك بشكل دائري، وتعددت المرايا الكبيرة بين أمامية وخلفية، وكثرت الماكينات والمقصات والأمشاط والكريمات على الرف.

في جزء آخر من المكان تصطف مقاعد وثيرة غالباً ما تكون جلدية بلون أسود. وفي الزاوية شاشة تلفزيون (32 بوصة) لمن شاء المتابعة، بينما يمكن لعشاق القراءة تصفح المجلات والكتب الموضوعة على منضدة في الوسط.

 مهنة بلا مقومات

في محل الحلاقة الذي أواظب على زيارته بشكل أسبوعي، نقع (حلاقي وأنا) في نفس المأزق حين نصل إلى خطوة تنعيم الخدين، إذ يتفاجأ حلاقي وبشكل غير اعتيادي -كأن الحادث جرى معه للمرة الأولى- بفراغ الماكينة من الشحن. وكما يفعل كل مرة أي منذ سنة تقريباً، يخرج الحلاق المدخرات من الماكينة ويعض عليها بأسنانه كي يحصل على شحن كافٍ لبضع ثوان أخرى.

تكرر المشهد بحذافيره أمامي مرات ومرات، وقد اعتدت على العبارات التي يرددها الحلاق في الختام "ما في شي مستاهل.. أصلا الكهربا مقطوعة".

 وبالفعل يشكل غياب الكهرباء عن معظم المناطق السورية أحد أكبر العوائق التي تقف أمام حلاقي هذا الزمن الرديء، وتجبرهم على التماهي مع الوضع وتأدية خدمة الحلاقة للزبون بشكل أقرب إلى التحايل، لا يتضمن إشباع رغبة الباحثين عن الأناقة والترتيب.

 غياب الكهرباء عن مهنة تعتمد في معظم خدماتها عليها حرم كثيرين وهم من الشبان في الأغلب، من الحصول على التسريحات العصرية التي يفضلون. إذ تمنعهم هذه المعضلة الكبرى المستعصية على الحل من تشغيل جهاز تصفيف الشعر، كما تتطلب بقية الأجهزة المتعلقة بالبشرة والتسبيل وحمامات الزيت شدة كهرباىية معينة لا تتوفر غالباً في المحلات التي تعتمد على الكهرباء النظامية بسبب التقنين، ولا في تلك التي تعتمد على الطاقة الشمسية التي لا توفر إلا كميات محدودة من الكهرباء.

 الحلاقة في إدلب

إذا كان الحديث في الأعلى ينطبق على معظم المناطق السورية فإنه يبرز أكثر وبشكل غير مسبوق في إدلب، حيث أدت مجموعة من العوامل إلى تثبيت مستوى صالونات الحلاقة على درجة معينة هي أقرب إلى الرداءة وقلة الاهتمام بخدمة الزبائن، في حين يقع جزء من هذه الرداءة على عاتق الزبائن أنفسهم الذي يبدون غير مبالين تجاه نوع من الرفاهية كانوا يحصلون عليه سابقاً، وقد حرمتهم ظروف القصف والنزوح وغياب الكهرباء منه.

 "لن أجهز صالوني إلا بعد أن تهدأ الأوضاع" يردد معظم الحلاقين هذه العبارة أو ما يشبهها في معرض الإجابة عن تساؤلات بعض الزبائن الراغبين بالحصول على خدمات أفضل. وكتوضيح للفكرة غالباً ما يضيف الحلاقون عبارة أكثر تفصيلاً مثل: "نقلت معدات الصالون مرات كثيرة من مكان إلى آخر، ولا أرغب حالياً بالتطوير والتجديد لأني سمعت أن هناك معركة سيشنها النظام على جبل الزاوية وجسر الشغور.. الله يلطف".

 وهذه الاقتباسات تفسر لمَ تبدو صالونات الحلاقة في إدلب على مستوى واحد من حيث نوع الخدمة والديكور والتكييف صيفاً والتدفئة شتاء، والمسألتان الأخيرتان تحتاجان لصفحات طويلة لسرد قصص الزبائن المرتعشين من البرد أو المتسربلين بالعرق، المنتظرين دورهم في صالونات حلاقة ودعت الزمن الجميل، لكنها لا تزال تحتفظ بأهم عبارتين مقدستين يعرفهما كل سوري قديماً وحديثاً: "نعيماً" "الله ينعم عليك".