مقابر حلب وفيلم لصور الفقد

حديقة هنانو بحلب تحولت من مكان للعب الأطفال إلى مقبرة

في حلب لا تتمدّد المقابر، تحاط بسور إسمنتي يحدد مساحة حريتها المعطاة، غالباً ما تطل عليها شرفات المنازل، يمر بقربها العابرون سريعاً إلى أعمالهم ووظائفهم، على الشرفات نساء ورجال يشربون قهوتهم، تسمع صباحاً صوت فيروز، تراقب الوجوه من بعيد، كل الأنظار تتجاوز حدود المقبرة

سائقو الحافلات وركابها تزيغ أبصارهم عند الوصول إليها، لا يقفون لأداء التحية أو لقراءة "الفاتحة"، ربما يضطرون للوقوف لإنزال راكب لا يسكن "المقبرة" بل يتخذها ممراً مختصراً للوصول إلى بيته أو عمله، يحاول جاهداً أن لا تطأ قدمه قبراً "بدون شاهدة"، وأن لا يعلق "نبات العلّيق" ببنطاله. أما في مساءات المدن فيغيب "خوف الحكايا القديمة" الذي ارتبط بالذاكرة، ليحلّ مكانه أضواء ملونة لمحال تجارية استقرت في مواجهة المقابر، بينما يأنس رجال الشرفات بصوت أم كلثوم تصدح من شرفة عاشق، وكثيراً ما ترى دخان النارجيلة، أو أعقاب لسجائر تهبط عليك من السماء.

كبيوت ساكنيها تختلف المقابر، هناك مقابر "أرستقراطية" وأخرى لـ "الفقراء"، مقابر مهجورة قاتمة وأخرى زاهية، قبور بـ "شواهد" عالية وأخرى على شكل "نتوء" من التراب، بعضها "غربي" بهواء عليل ومساحات شاسعة ودهان أبيض أو أخضر، منها مسوّر بالحديد، وأخرى صفراء شاحبة متلاصقة تعاني من "الاختناق"، قال لي أحدهم خلال سيرنا بالقرب من مقبرة "جبل العضام في حي قاضي عسكر في حلب" في بداية الثورة، "لعلهم يحلمون بالثورة"، وأشار إلى خمسة قبور متلاصقة بدون شواهد دالّة، ضحكت وأنا أجيبه أن "أهالي المدينة يتبادلون فيما بينهم سبب تسميتها بجبل العضام لأنها كانت مدفناً لأصحاب الرتب والمناصب العالية"، هؤلاء هم من تسللوا خلسة إلى المقبرة، فلا يحق لهم "الثورة".

 

مقبرة ميسلون (جبل العظام) تكتظ بقبورها

 

قبل 2011، كانت حلب تضم عشرة مقابر، إضافة إلى (المقبرة الإسلامية) التي أسست حديثاً خارج المدينة، ساهمت بالثورة منذ اندلاعها: اختبأ فيها المتظاهرون هرباً من الشبيحة وقوى الأمن، ومرّ من بين قبورها مقاتلون لتحرير مناطق جديدة في المدينة، وأخفت وراء شواهد قبورها أسلحة لمقاتلين تسللوا إلى "ثكنة هنانو" و حي "ميسلون" وغيرها من المناطق، ولجأ إليها كثر من الأهالي خوفاً من القصف والطيران، ظناً منهم أن "الأموات لا يموتون مرتين"، إلّا أن طائرات الأسد لم تستثنِ مكاناً، ولم تقف برهبة أمام "جلال الموت"، فقصفت المقابر، وأخرجت عظام أمواتها، لتستبدلهم بأموات جدد من الهاربين والخائفين.

على عجل باتت القبور تُحفر، ودون شروط أو ثمن، وأحياناً في خنادق طويلة لقبور جماعية، تسكنها جثث وبقايا أشلاء وضعت في أكياس سوداء. حول تلك القبور يجتمع رجال ونساء يبكون من فقدوهم، يقرؤون الفاتحة، ويسقون القبور بالماء، علّها تحتضن "ذويهم". لكن ذكرى امرأة بثياب سوداء مغبرة ظلت معلقة في الهواء، كانت تمرّ صباح كل يوم على كل تلك القبور، قالت إنها لا "تعرف أين يرقد طفلها"، ولكنها متأكدة أن "أجزاء منه" توزعت في هذه "الخنادق الطويلة"، باكية توزع شتلات من "الريحان" كيفما اتفق، "ربما تنعش قلب صغيرها بالرائحة".

"حلب الشرقية"، أو كما أطلق على المناطق التي سيطرت عليها الفصائل الثورية، كلها تحولت إلى "مقبرة"، الحدائق وساحات البيوت، وأنقاض البيوت المهدمة، في سنة الحصار 2015-2016، ومع اشتداد القصف، صار الدفن "رفاهية"، والوصول إلى المقبرة "حلماً"، "الدفن في أي فسحة" متوفرة كان القانون الجديد الذي أعطى للمقابر حريتها في التمدد، الحصار أعفى الموتى من الطقوس الجنائزية، وحررهم من قيود السور الإسمنتي، لينتقلوا إلى "العيش" مع الأحياء في أزقتهم وحواريهم، إلّا أنهم لم يستطيعوا الانتقال معهم في "الحافلات الخضراء" بعد تهجير قوات النظام لأهل المدينة والسيطرة عليها.

في نيسان الفائت، أعلن مكتب دفن الموتى في حلب بدء عملية نقل الجثامين من المقابر "العشوائية" إلى (المقبرة الإسلامية)، قال إن عددها تجاوز 35 مقبرة، متوزعة بين الحدائق والساحات والمناطق العشوائية، واستصدر قراراً من دائرة الإفتاء بهذا الخصوص. دون توثيق سيتم نقل الموتى هذه المرة، لا أعرف إن كانت ستنقل في "سيارات دفن الموتى"، أو في "شاحنات زيل عسكرية" لتنظيف وجه المدينة، ولكن ما أعرفه حقاً، أن النساء ستخرج هذه المرة وتقرأ الفاتحة، وترش الماء وتوزع أعواد الريحان على آلاف القبور، ليلمسن تراب قبور أطفالهن، الذين ضاعوا ككل شيء في المدينة "المحتلة"، وأن أغاني جديدة ستسمع على الشرفات المهدمة، وسجائر كثيرة ستسقط عليك من السماء.