مصياف والقدموس.....

خاص عين المدينة | من مظاهرات مصياف 2011

مصياف والقدموس.....
قصة مدينتين مغتربتين في قاع الساحل السوري

 

في الذاكرة

13 تموز 2005 تاريخ لن ينساه سكان بلدة في جبال الساحل السوري اسمها "القدموس"، المرتفع الصخري والجبلي الطبيعي الذي يبعد عن مجزرة بانياس حوالي 30 كم، وعن مدينة طرطوس 70 كم، وعن مدينة مصياف 25 كم.. هي البيئة الطبيعة الساحرة ذات الشتاء الذي لا يتناسب أبداً مع بخل الدولة في وقود التدفئة، والصيف اللطيف الذي أهملته الدولة سياحياً عشرات السنين.
يرتبط ذاك التاريخ بحدثٍ لا يمكن وصفه إلا بكلمة "هجمة طائفية"، عندما تم حصار القرية من قبل "الشبيحة"، فلا هم عناصر أمن ولا جيش نظامي، وتوافد مسلحو الريف بالسلاح لإحراق المحلات التجارية والهجوم على بعض البيوت وترهيب المنطقة بصورة همجية عنيفة سكنت في ذاكرتها إلى الأبد. وكانت هذه الأحداث قد سُبقت بعدة اشتباكات في مصياف بصيغة مشابهة، ليكون الانفجار

الأكبر في ساعات الليل وبعيداً عن إدارة الدولة، وتستيقظ البلدة على صباحٍ من الدمار الكبير دون أي كاميرا تنقل ما حصل بعد أن أتمت الدولة سيطرتها على الوضع، وحاولت حل الصراع بشكل غامض بعيداً عن أي تسريب، ضمن جغرافية سورية لم تكن حينها تشهد أية مجابهات.
كان لا بد من البداية من هنا، لنقول إن القدموس ومصياف هما بلدتان تعيشان حتى الآن هدوءاً حذراً خوفاً من الجغرافية المطبقة بحصارها عليهما، حصار من شبيحة الأسد المنتشرين بكثافة هائلة في ريف المدينيتن، ما يمنعهما من التعبير عن موقفهما من الثورة السورية، مع العلم أن التيار الأقوى والأوعى في هذا الريف هو التيار المعارض، والذي لم يتسنّ التعبير عنه إلا بعدة مظاهرات في مصياف، وبتنسيقيتين تعتبران من أنشط تنسيقيات المنطقة في الثورة السورية، وبامتناع شباب مصياف والقدموس عن الالتحاق بالجيش السوري النظامي، إضافة إلى مشاركات توضحت في مظاهرات المدن الأخرى، وخاصة في مدينة حماة وحمص وريف دمشق.

 

شهــــــداء

شهد الجيش محاولات انشقاق عديدة من قبل بعض شباب المدينتين، انتهى بعضها بالقتل السريع ونجح بعضها فبات صاحبها مقاتلأً في الجيش الحر، ولا يلغي هذا وجود البعض ممن يقاتلون مع النظام حتى الآن.... إلا أن التجربة الأوضح والمأساة الأكبر هي الشهيد "محمد حيدر"، الذي قتلته قوات الأسد أثناء محاولته الانشقاق، وفق شهادة رفاقه في مدينة الزبداني، وهو المجند الذي عانى من الاحتفاظ الذي تنقّل به في جغرافية سورية كلها كمقاتل في الجيش النظامي، يطمر الرصاص في التراب ليتفادى استجواب قادته عن الرصاص الذي لم يطلقه، وينذر الأهالي بالاستهداف، ويحاول قدر الإمكان حمايتهم، ويتوقع مقتله لمجرد أنه لا يمارس القتل، وهو ما حصل عندما حاول ترك بندقية حماية نظام الأسد... عاد محمد حينها إلى مدينته القدموس ليدفن فيها.
والشهيد إسماعيل الشيخ حيدر هو مثال في مصياف للناشط الذي اغتيل أمام حاجز للجيش النظامي، وهو الشاب الذي خالف توجه والده "علي الشيخ حيدر"، وزير المصالحة الوطنية في حكومة النظام، الذي أول ما اتُّهم به هو "بيع دم ابنه"، ابن الثورة وطالب كلية الطب، والوجه الذي تواجد في الكثير من المظاهرات وشجع على نشر الحالة الثورية في بلده.

 

أقليّـــــة

الإسماعيليون، الأقلية القاطنة في مركز مدينتي مصياف والقدموس بعدد سكان بسيط لا يفوق في المدينتين 80 ألف نسمة، هم وفق ديموغرافية سورية الحالية أقلية غائبة من مختلف الاتجاهات وفق وصف بعض السكان.. فالمحيط العلوي يطبع المنطقة بصيغة شمولية بحيث يصعب على مدن سورية كثيرة تحديد ماهية الموقف من هاتين المدينتين. إضافة إلى نظرة النظام إليهما على أنهما مركزان لأقلية خائفة، من السهل إدراك الموقف المعارض من قبل نسبة كبيرة جداً من سكانهما، ومن السهل ترهيب السكان بما يحصل في المحيط المدني الذي كان آخره بانياس، التي كانت إحدى أهم وظائف مجزرتها توجيه رسالة إلى كل معارضي المنطقة من مختلف الطوائف.
في الجبال المطلة على مصياف والقدموس يمكن رصد عشرات الشبان العاملين بالحطب، وخاصة الهاربين من خدمة العلم، بل ورصد محاولات تعبير بسيطة عن الوقوف مع الثورة بلوحات وأعلام تنتمي إلى التيار المعارض بصورة واضحة،
إنما يُفرض التواجد المؤيد من قبل شبيحة النظام المنتمين إلى قرى الريف ومن قبل بعض أبناء المدينتين المستفيدين وأعضاء شعب الحزب والمجالس البلدية ومتطوعي الأمن والجيش.

 

من هنا يمر الشبيحة

خاص عين المدينة | من أحداث القدموس تموز 2005

خاص عين المدينة | من أحداث القدموس تموز 2005

يمر الشبيحة بسياراتهم مسلحين بكافة أشكال السلاح في مدينتي مصياف والقدموس، متجهين إلى حماة وحمص وفخورين بما يرتكبونه من مجازر، بل ويرفعون الأعلام وصور الأسد، ويرفعون من أصوات مسجلاتهم الصادحة بالأغاني التي تحيي قائدهم، وينبهون أهالي القدموس إلى أنهم الآن هم في طريقهم لتأدية الواجب الوطني في بانياس... "إياكم"!
يسيطر الطقس السوري العائد إلى ثمانينيات القرن العشرين على مصياف والقدموس، حيث دوريات الأمن تترقب أي حركة مشبوهة، تعتقل أي لسان أعلن تأييده للثورة أو ارتكبها بصورة ممارسة، سواء بالنشر أو التجمع أو التعبير الواضح. وتقوم فروع الأمن الجوي والعسكري والسياسي في طرطوس وحماة بتأديبه ليعود إلى مدينته الصغيرة وقد تعزز في نفسه الحقد والإصرار على

المشاركة بأي صورة رمزية، حيث لا يمكن القيام بأي نشاط آخر بين قرى تمتلك من سلاح الجيش جلّه وعقلية النظام ورعبه الطائفي ورجعيته البعثية وحقده على الآخر وقدرته على ارتكاب أي مجزرة وبدون مبرر.
ينجو طلاب الجامعات في المنطقتين غالباً من طقس الخيبة، بقدرتهم على المشاركة في الثورة في المدن التي يدرسون فيها والتحدث بطلاقة، وحتى التنظيم والعمل الثوري والتنسيق والإغاثة. وينجون من وطأة الانغلاق والاقتصار على الإحساس بالظلم ونمو الشعور الطائفي الذي خلقه ونماه وعززه النظام خلال عشرات السنوات ليصبح شعوراً واضحاً لدى الكثيرين من سكان المنطقة... فهنا قد تجد بعض المعارضين ممن لا يحملون أهداف الثورة، وقد لا يمتلكون الوعي السياسي لإسقاط النظام وتبديل نموذج الحياة، وإنما يحملون فقط الشعور الفطري الطبيعي بالكره للنظام وطائفته دون أي مشروع وإنما كردة فعل على مجمل ارتكاباته، اليوم ومنذ تسلم الأسد الأب السلطة. خاصة بوجود عوامل تاريخية ترتبط بتغير المفهوم الاجتماعي والاقتصادي والطبقي في المدينتين من مجتمع يملك جغرافية زراعية وأراضي واسعة تقارب صورة "الإقطاع"، إلى مجتمع فقدها بقوانين الأسد بصورة خاطفة ودون صيغة شرعية حقيقية. وبغض النظر عن مفهوم  القضية "عامل مسيطر ومجتمع طبقي" فإن ما اكتسبه المجتمع أصلاً من هذه العملية هو تنمية الشعور بالظلم والحقد الطائفي من جهة، وإغداق الملكية بشكل مفاجئ على من لم يكن يملكها، ما أسهم في ولادة طبقة استطاعت مع مرور الزمن تكوين "ذات اقتصادية جائعة" و"محدثي نعمة" وحتى ميليشيا مسلحة بموافقة الدولة، فاختلطت الموازين وازداد الصراع متمثلاً في المدن التي شهدت أيضاً ما شهده الريف بصورة أوضح...
"كانت مشكلة ريف الساحل في دخول المدن هو عدم طرق الأبواب بشكل حضاري، بموجب الثقافة أو الجامعات أو حتى المهن والتجارة، "فالبوط العسكري" للأسف هو السباق، وهو ما أباح تملك كل شيء وبالتالي ساهم بانهيار المنظومة المدنية، وتعميم الفساد والسرقة والواسطة، بالتالي تم وصف أتباع الأسد الذين ملؤوا المدن "بمحدثي مدنية" و"جوعى حضارة" وخلق البيئة للصراع الطائفي.... هذا الجوع تبدى واضحاً بغنائم الجيش والشبيحة من مختلف المدن في المرحلة الأخيرة".

 

في التاريخ

في تاريخ القدموس ومصياف قصص ممتعة للغاية وصلت حد الأسطرة والتوظيف الروائي، لتحضر قصصهما وقلاعهما وشخصياتهما في مختلف أشكال الإرث الروائي والتاريخي العربي والغربي. وكان الفكر الذي ساد لمرحلة معينة "تغليب العقل" مدعاة لاحترام المدينتين ومرجعيتهما بصيغة أكثر تصالحاً مع مختلف الثقافات والمجتمعات، إذ أن تاريخ هذا الفكر يشهد على أنه بعيد إلى حدٍ كبيرٍ عن العنصرية والتعصب...
إلا أن هذا الفكر لم يعد حاضراً بهذه التفاصيل بل بات مجرد إرث جمالي يتغنى به السكان، بفعل تغييب نظام الأسد لمختلف معالم الفكر التنويري والثقافي وتعميم فكر السيطرة والتمييز الطائفي والتخلف العلمي.. لتصبح القدموس ومصياف نموذجاً واضحاً عن فئة مجتمعية عانت ما عانته كغيرها في سورية وباتت تتوق إلى التخلص من السلطة المجرمة بكافة أشكال حضورها... إلا أنها محاصرة تعبث بالأوراق وصفحات الإنترنت لتنفس هواء حريةٍ ما.. حريةِ الألمِ السوري.