بعدسة الكاتب

عندما تتمنى الموت قبل الموت، وتندثر أحلام الأطفال في أقبية الملاجئ. حينما تشعر أن العالم كله يقف ضدّك. وبينما تقف منتظراً مصيرك المجهول، يأتيك صوت من بعيد. يصرخ ويقول: يا غوطة نحن معك للموت، وحدها هذه الصرخة قد تعيد لك شيئاً من الأمل رغم الألم.

انتفاضة المخيمات

على وقع ما يجري في الغوطة، اجتمع عدد من سكان المخيمات التركية، لمساعدة سكان الغوطة المحاصرة وغيرها. إذ طالب الأهالي وجهاء وأئمة المساجد في المخيمات، بتنظيم حملات لجمع التبرعات للمدن المحاصرة المنكوبة، وعلى رأسها الغوطة الشرقية بريف دمشق.

استجاب الوجهاء وأئمة وخطباء المساجد للمطالبات، لتبدأ حملة شعبية عفوية، جاد بها سكان عدد من المخيمات في تركيا. ليفاجئوا المتقاعسين عن مساعدة ونصرة الغوطة، بمبالغ تُعدّ كبيرة مقارنةً بإمكانيات سكان هذه المخيمات، الذين لو ملكوا ما يكفيهم لما سكنوا داخلها أصلاً. إذ أنّ قوت غالب القاطنين منهم يعتمد على كرت المساعدات فقط، ورغم ذلك يُنفق كل واحد منهم بقدر إمكانياته وربما بما يفوقها.

في حملات التبرع هذه، تشتعل المنافسة بين الأحياء، وينقلب ليل النازحين نهاراَ. تتداخل أصوات الإذاعات، وكأنها ليالي العيد. كما تتقاطع أصوات الدعاة أيضاً، كلُّ ينادي للتجارة مع الله، وأي تجارة أعظم من تجارة رابحة كهذه؟

حجم التبرعات

مطلع 2016 بدأت المخيمات بحملة لإنقاذ بلدة مضايا، شاركت فيها خمس مخيمات، وكعادتهما نال «حرّان والإصلاحية» المرتبة الأولى في الجمع، حيث بلغت عدد الحملات التي نفذها الأخيران قرابة خمسة وثلاثين حملةً، في حين دخل على خط المشاركة كل من مخيم جيلان بينار وكلس وتل أبيض للمرة الأولى. ورغم أن ترتيب مخيم تل أبيض يأتي متأخراً عن سابقَيْه، إلا أنه استطاع تنفيذ ثلاث حملات متتابعة: كانت الأولى للغوطة ومضايا، جُمع خلالها ثلاثة وسبعون ألف ليرة تركية، ما بين تبرعات نقدية، ومصاغ ذهبي وهواتف جوالة. أما الحملة الثانية فهي بعد تهجير سكان مدينة حلب، جُمع خلالها واحد وعشرون ألف ليرة تركية. فيما تستمر الحملة الثالثة للغوطة الشرقية حتى الآن، علماً أن مدة الحملة الواحدة لا تتجاوز أربعة أيام فقط.

ويقول إمام وخطيب مخيم تل أبيض الشيخ محمود طيجان لـ عين المدينة: إن جميع الحملات تتم بعد الحصول على موافقة من إدارة المخيم، كما أنها توثّق وفق إيصالات رسمية، يتم خلالها تسليم المبالغ لجهات موثوقة ومرخصة في تركيا أصولاً. يتم توثيق وصول المبلغ أيضاً إلى الجهة التي قامت باستلامه في سورية بالصوت والصورة، ويُعرض التوثيق على سكان المخيم أيضاً. وتوزع المساعدات على شكل سلال إغاثية، ومساعدات مالية وغذائية لعائلات الشهداء وأبنائهم. ويبلغ عدد سكان مخيم تل أبيض خمسة وعشرين ألف شخص، فيما يقطن مخيم حران خمسة عشر ألفاً، ومثله مخيم الإصلاحية أيضاً.

قصص مشرفة

ورغم أن القصص أكثر من أن تحصى، فقد روى لنا الشيخ محمود بعضها ومنها أن: أحد الشبان اقترض مالاً – بعد خطبته - ليشتري به هاتفاً، وحينما سمع النداءات والاستنفار داخل المخيم، توجه من فوره للمسجد، وقام بتسليم هاتفه للقائمين على الحملة. أما القصة الأكثر غرابة، حينما توجه القائمون على الحملة لبيع ما جمعوه من مصاغ ذهبي، حيث تساءل البائع مستغرباً عن مصدر الذهب سيما مع تنوع أصنافه، وحينما علم أنه عبارة عن تبرعات من أهل المخيمات، سأل عن المبلغ الذي تم جمعه، قيل له: أربعون ألف ليرة تركية، فقال: وهذه مني أربعون مثلها!

ويضيف طيجان: من أجمل المشاهد التي رأيناها خلال جميع التبرعات، أن الأهالي وكنوع من التعليم والتنشئة على التضحية والإيثار، يرسلون الأموال عن طريق أولادهم، حتى بات الأطفال يتسابقون للتبرع بـ «خرجياتهم» لأهل الغوطة!

ورغم أن حجم هذه المساعدات لا يتناسب بأي حال مع احتياجات المدن المنكوبة وسكانها، في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، والحصار المطبق الذي يفرضه الأسد وشركاؤه، إلا أنها ستبقى حجة على كل متقاعس ومتخاذل، بل أثبتت هذه الحملات أن قليل الشعوب خير وأصدق من كثير الدول. وكما يقال: ما حكّ جلدك مثل ظفرك.

بعدسة الكاتب