صورٌ من أرض الخلافة

يحب أبو الكليم الحضرميّ أن يلفت الانتباه، معتمداً على قطعٍ من أحاديث شرعيين مهاجرين سمعها هنا وهناك، يعيد تدويرها ليقذفها من جديدٍ في "دردشاته" المختارة بعنايةٍ مع مهاجرين آخرين، ويضيف إليها جملاً من تأليفه بالعربية الفصحى، مشحونةً بأكبر قدرٍ من التأثر، كأن يقول إنه: "وجد في انتمائه إلى الدولة راحةً نفسيةً لم يجدها من قبل"، أو إنه "عاش حياته طولاً وعرضاً قبل أن يهديه الله، وهو اليوم يخجل من تلك الحياة".

بمهارته هذه، وبالتزامه بقواعد السلوك الثلاث لعناصر "الدولة" كما اكتشفها بنفسه (لا تتذمر؛ لا تسأل؛ كن شديداً على عوامّ المسلمين) حصد الحضرمي منافع كثيرةً، جعلته مرشحاً للصعود وتبوّء منصبٍ لا يقلّ عن أمير قاطع. لكن صدفةً سيئةً، وضعته وجهاً لوجهٍ مع أوقح أبناء قريته وأكثرهم ولعاً بـ"المسخرة"، قد تهدّد ترقيه السلس. فقبل أسبوعين، وعندما كان أبو الكليم يشرب إبريق عصيرٍ، وقف القرويّ الساخر فجأةً على بعد خطواتٍ منه وناداه بصوتٍ سمعه كلّ من كان في السوق: "موسى.. أبو الموس هين.. والله وصاير دولة يا بوّاق البقر!". فقد أبو الكليم في لحظةٍ المهابة التي اكتساها، وصار مجرّد شخصٍ عاديٍّ يتبادل الشتم واللكمات مع ابن قريته الوقح، قبل أن يزجّ بالأخير في السجن بانتظار العقاب. بعد ذلك لم يفكر موسى في مصير خصمه، وقال لنفسه فليذهب "ابن الداشرة" هذا إلى الجحيم. المهم أن لا توضع في سجله نقطةٌ كما توقع أنصاريٌّ يعمل مع الأمنيين: "أبو الكليم تصرّف.. الكونة وصلانة للوالي". وكيف أتصرّف؟ سأل موسى نفسه قبل أن ينام، وفكر إن كانت القواعد السابقة كافيةً لكي يكون عنصر الدولة "في السليم". غلبه النوم وهو يفكّر، وجاء الحلم شريطاً متقطعاً من الماضي البعيد، من حفلة عرسٍ نوّع فيها الفنان تحياته الخصوصية لنجم الدبكة المنفرد برقصٍ على طريقته وسط الحلقة: "أبو الكليم الحضرمي، و"الشيخ شيخ الشيوخ الحضرمي". استهجن في حلمه أن يكنّى بهذا الاسم؛ فهو موسى وليس أبو الكليم، وهو من قريةٍ قرب الرقة وليس يمنياً من حضرموت.

***

"صالح الفوزان كافر، محمد العريفي كافر، عايض القرني كافر. ومحمد مرسي، حتى محمد مرسي الذي تبكون عليه طاغوت، وكلّ طاغوتٍ كافر". كانت طبقة الصوت التي اختارها أبو القعقاع الليبيّ لإطلاق صيحته الأخيرة من على منبر خطبة الجمعة كفيلةً بشدّ انتباه المصلين عن اللهو بأصابعهم أو عدّ الشبابيك العالية تحت القبّة أو النظر صوب المروحة المثبتة على الجدار. أراد الليبيّ أن يغتنم لحظة الانتباه هذه ويشدّ المستمعين أكثر قبل أن يعودوا إلى لامبالاتهم فغيّر الموضوع: "اتقوا الله أيها الناس؛ يأتينا الواحد منكم بأعذارٍ يخجل من قولها المخنثون: "مقدر أطوّل لحيتي يا شيخ، جلدي يتحسّس يا شيخ. ما قصّرت إزاري لأنه الخياط مسكّر". وعندما نريد منه أن يستمع إلى تعاليم دينه نراه يلهو مثل الأطفال". توقّف للحظةٍ قبل أن يستأنف: "محمد حسان كافر، يوسف القرضاوي كافر. وكلّ من لا يقول عن المذكورين إنهم كفارٌ فهو كافرٌ أيضاً".