دير حافر.. من داعش إلى الحرس الثوري

مؤتمر للقبائل في دير حافر - متداول

تعتبر مدينة دير حافر (52 كم شرق حلب) ثالث أكبر مدن ريف حلب الشرقي بعد مدينتي (منبج والباب)، ومن أهمها على الطريق الذاهب إلى الرقة، ويبلغ سكانها حوالي 100 ألف نسمة تعمل غالبيتهم في مجالات الزراعة والتجارة، وتحوي موقعين استراتيجيين للغاية، مطار (كويرس) بكلّيته الجوية، ومحطة حرارية عملاقة لتوليد الكهرباء، لهذا فقد كانت محط أنظار الفئات المتقاتلة في سوريا جميعها.

لم تشهد المدينة نشاطاً سلمياً مناهضاً يذكر للنظام، إذ عُرفت منذ منتصف العام 2012 خارجة عن سيطرته في 20 تموز، وذلك بعد أن سيطرت عليها قوات المعارضة السورية عقب اشتباكات بالأسلحة الخفيفة بين مسلّحيها التابعين لكتيبة (أبو دجانة) بقيادة "أبو حمزة"، وبضعة عناصر من الشرطة، ما عرّضها للقصف المدفعي والجوي المتواصل من مطار (كويرس) القريب، الأمر الذي دفع بغالبية سكانها للنزوح إلى مناطق عدة مجاورة، أبرزها (السفيرة والجبول) الخاضعتين لسيطرة النظام آنذاك، قبل أن تستعيد المدينة عافيتها مع مطلع العام 2013.

انضمت كتائبها العسكرية المعارضة لحركة (فجر)، وشاركت إلى جانب قوات (جابر الشيخ- مسكنة) وكتائب أخرى من مدينة (الطبقة)، في السيطرة على بلدة (دبسي عفنان) في ريف الرقة، ثم أسسوا بعد ذلك ما بات يعرف بـ (لواء رايات النصر) قبل أن ينضموا جميعاً لحركة أحرار الشام الإسلامية، التي استهدفت المواقع التابعة للنظام في (مطار الجراح، مطار كويرس، منطقة أثريا، وبلدة خناصر).

ومع تنامي قوة تنظيم الدولة الإسلامية واتساع رقعة سيطرته، قام بقطع الطريق بين مسكنة ودير حافر لعرقلة وصول الإمدادت العسكرية التابعة لحركة أحرار الشام منها، ثم اختطف القيادي "أبو حمزة"، وبعدها بأيام قليلة أعلن سيطرته على المدينة كلياً بعد انسحاب حركة أحرار الشام منها.

استغل تنظيم الدولة، منذ وقت سيطرته كانون الثاني 2014، ولاء المدينة للعشيرة، التي تتميز بثقلها الديمغرافي (الحديديون وغيرهم)، ونفوذ شيوخها المالي، الذين تربط بعضهم علاقات وثيقة بالنظام السوري والحزب الحاكم. لكنها صارت لدى التنظيم أبرز الخطوط الدفاعية عن مناطق سيطرته في بادية حلب، حيث تفصلها كيلومترات قليلة عن بلدة (السفيرة) و(معامل الدفاع) الاستراتيجية؛ كما أن خسارته إياها تعني بالضرورة تقدّم قوات النظام على حسابه حتى الطبقة دون أي مقاومة يمكن ذكرها، وهو ما يقدر بمسافة 90 كم على الأقل.

أطلق التنظيم على المدينة اسم (دار الفتح)، في الوقت نفسه الذي أعاد فيه تسمية بلدة مسكنة إلى (مسلمة)، وقرية (المهدوم) إلى (المعمورة)، وأغلق الطرق المؤدية إليها من جهة الغرب، ما حتّم على أهلها النزوح إلى مناطق سيطرته شرقاً وجنوباً، وأقام فيها العديد من مقرات القيادة، والتصنيع الحربي، والمستشفيات الميدانية الخاصة بعناصره، إضافة إلى التحصينات الهندسية المعقدة داخل وخارج المدينة، حسب تقرير للإندبندنت نُشر في 2 نيسان 2017، وذلك خلافاً لما كان يفعله في المدن الأصغر حجماً، أو تلك البعيدة عن خطوط التماس.

كان تنظيم الدولة في دير حافر يعمد إلى مصادرة حصص المساعدات الإنسانية، بما فيها الطبية التي تقدمها الأمم المتحدة عن طريق الهلال الأحمر السوري الذي كان لايزال يعمل في المنطقة آنذاك؛ في آب 2015 -حسب تقرير للأمم المتحدة- صادر التنظيم 1700 حصة إغاثية، ووضع عليها شعاره الشهير ليقوم بتوزيعها فيما بعد؛ وكان أسلوبه الدعائي والترويجي في دير حافر لا يشبه ماهو معهود عنه في مدن أخرى عدا الرقة، ساحات لإقامة "الحدود"، دور للانتساب، دور لـ "الدعوة"، ميادين لتدريب المقاتلين، كما نظّم فيها اجتماعات متواصلة لقيادات العشائر؛ يمكن القول إن التنظيم كان يعوّل على المدينة المتاخمة لمناطق سيطرة النظام، ويسعى لحشد قواته فيها والحصول على أكبر قدر من المناصرين من أبنائها، العشائر خصوصاً، والذين تربطهم علاقات وثيقة بأبناء نظيراتها على امتداد رقعة سيطرته في ريف حلب الشرقي الذي تتخذ دير حافر فيه شكلاً مركزياً.

في 12 شباط 2017 أطلقت قوات النظام السوري والميليشات معها حملة عسكرية أرادت من خلالها الوصول إلى نهر الفرات ومنطقة (الخفسة) حيث مضخات المياه المسؤولة عن تزويد مدينة حلب بها... تاخمت القوات المهاجمة دير حافر من الجهة الغربية، وتابعت حتى وصلت (الخفسة) لتقطع سبل تقدّم قوات (درع الفرات) أكثر في ريف حلب الشرقي، ولشدة ما تعرضت له من القصف آنذاك اضطر أهلها للمغادرة حتى أُفرغت منهم آذار، في حين كان تنظيم الدولة يَحول دون مغادرة الشبان لها، حيث عمد إلى زج أبنائها الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 18 – 30 في مواجهاته مع قوات النظام السوري والميليشيات إلى جانبه، قبل أن يتم حصارها في 23 آذار من ثلاث جهات، لتتم السيطرة عليها بعد أسبوع، في 29 من الشهر ذاته. 

أحد جوامع البلدة- متداول

ما إن تخلى التنظيم عن دير حافر، حتى ترك خلفه عشرات البلدات والقرى تتساقط تباعاً بيد قوات الأسد والميليشيات الإيرانية وميليشيات حزب الله اللبناني، وقد تحسست جميعها أهمية المدينة الاستراتيجية سورياً وإقليمياً: إنها في العمق ذات تركيبة اجتماعية فقيرة، تستمد من العشيرة قوتها وسلطتها وتشريعاتها، ما يجعلها قابلة لإعادة التوظيف بإعادة هيكلة التوجه القبلي فيها، أخذاً بعين الاعتبار علاقات عشائرها بتلك في الشرق السوري.

فبعد سيطرة قوات النظام عليها سعت مع حلفائها إلى تقديم التطمينات لعودة أهلها النازحين، ثم شرعوا في إعادة الحركة المدينية إليها، فمن جهة تتم إعادة تأهيل بعض خدماتها، ومن جهة أخرى يتلقى أبناؤها إرشاداتهم في المساجد من "علماء" دين شيعة، حالها حال الظواهر المنتشرة في ريف حلب الشرقي الخاضع للنظام عموماً، وهو ما أظهرته في منتصف حزيران 2017 صور تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، حيث رجل دين من الطائفة الشيعية يعلّم عدداً من الأطفال في أحد مساجد المدينة.

ومؤخراً رعت قوات النظام في دير حافر مؤتمراً للعشرات من عشائر ريف حلب الشرقي حضره شيوخ عشائر عربية وكردية من محافظة الحسكة، ومناطق أخرى تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، تحت عنوان: (العشائر السورية ضد التدخل الأجنبي والأمريكي في الداخل السوري)، خرج بيانه الختامي بتشكيل قوات رديفة للنظام تقاتل لطرد (الأمريكان) وغيرهم من مناطق "قوات سوريا الديموقراطية"، وجاء فيه: «نزفّ إلى شعبنا السوري نبأ تشكيل وحدات المقاومة العشائرية الشعبية لطرد الدخلاء المحتلين من أمريكيين وأتراك وفرنسيين، الذين دنسوا تراب وطننا بحجج واهية».

يرتبط اجتماع العشائر في دير حافر بدعوة إيرانية سابقة على لسان المرشد الأعلى للشؤون الدولية (علي أكبر ولايتي) حين قال إن "طهران تعوّل على العشائر الكردية الموجودة في منطقة شرق الفرات للتحرك ضد قوات الولايات المتحدة الأمريكية"، وبتصريحات لمسؤولين لدى النظام السوري عبّرت عن رفضها "الوجود الأمريكي في الشمال السوري، وخاصة مدينة الرقة، والمناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية".

وهكذا فقد اتخذ النظام السوري، بتخطيط وبمساعدة الذراع الإيراني- الشيعي الممتد في المنطقة، من دير حافر منطلقاً لإعادة التغلغل شرق البلاد، باعتبارها مركزاً ديموغرافياً هامّاً وقابلاً للتطويع، وذلك عبر تشبيك مسنناته الآيديولوجية الطائفية بالامتداد القبلي، واللعب على أوتار الفقر الذي يعانيه أهلها أصلاً، بغية التمدد على حساب (قسد)، مستغلاً علاقات السكان ببعضهم أولاً، وقابليّة توظيفهم مذهبياً ثانياً.

مؤتمر للقبائل في دير حافر - متداول