داريا .. بوابة إلى السماء

"البيوت تموت إذا غاب سكانها" هكذا نشر الحساب الذي اختار له صاحبه من داخل داريا اسم ماجد على فيسبوك، والذي عرفت لاحقاً أنه لصديق نزح من داريا إلى مكان قريب وقد زار منذ فترة بيته المدمر مع إحدى الدفعات التي دخلت إلى المدينة.

عادت داريا إلى واجهة الأخبار مؤخراً بعد أن سُمح لموتاها أن يعودوا إليها قبل أحيائها؛ الكثير من الأهالي اكتفوا بالنظر لمنازلهم دون التفكير بالعودة، فالبنى التحتية مدمرة والخدمات غير متوفرة، باستثناء الكهرباء التي وصلت منذ فترة وجيزة إلى الشارع الرئيسي من الجهة الشمالية للمدينة، فاستقرت بضعة عوائل بالقرب منه، ولكن حالة عدم اليقين من عودة الحياة ما زلت تخيم على المدينة، نتيجة لخلو معظم سكانها وحاجتها لأبسط مقومات الحياة.

بعد مرور قرابة عامين ونصف على تهجير من تبقى من سكان داريا إلى الشمال السوري وفق اتفاقية عقدت بين الثوار وقوات النظام بموافقة أممية، بدأت قرارات السماح للأهالي الذين نزحوا عن المدينة منذ اندلاع الحملة الأخيرة عليها نهاية 2012 واستقروا في المدن والبلدات المتاخمة لداريا، بالعودة إليها.

صديقي صاحب حساب ماجد أحد الذين زاروا داريا، حين حاول أن يشرح لي كيف جرت الزيارة وحال المدينة اليوم، لم يستطع التخلي عن حذره الذي زاد بسبب ما يشاع في دمشق عن الاعتقالات بسبب المكالمات على وسائل التواصل، فكانت محاولات معرفة تفاصيل أكثر دقة أمراً مستحيلاً، لأن الحذر تسلل إلي رغم أني أعيش في الشمال السوري، فحديث صديقي معي وأنا هنا قد يعتبر جريمة يعاقب عليها الأسد بالاعتقال حتى الموت. لذلك ظلت أحاديثه على مسنجر مقتضبة، باستعمال الرموز مثل أسئلتي، كتب لي "رجعت ع البيت لضب الغراض، بس غراضنا تعبانين وبدنا بيت جديد" ففهمت أنه زار داريا وشاهد منزله المدمر، وأنه لم يعد صالحاً للسكن، وهو مضطر لبناء بيت جديد في حال قرر العودة للمدينة، أو بالأحرى إن سُمح له بذلك. أم أني مخطئ؟

صارت أحاديثنا كلها مشفرة، أضطر بعدها لإعادة بناء عناصر المشاهد والمواقف والأوضاع التي يحكي لي عنها وقد عايشها، منذ بدأ بالهتاف للأسد وجيشه مع عائدين من الأهالي، إلى انتشار صوره وأعلامه على كل مرافق الدولة بعد أن جهزت كيفما اتفق، إلى تقدير أعداد الأهالي الذين يسمح لهم بالدخول في كل دفعة لا تتجاوز 200 شخص يومياً، بعد استصدارهم بطاقات موقعة من "مكتب الأمن الوطني" ومرورهم بثلاثة حواجز عند مدخل داريا الشرقي.

مداخل داريا الرئيسية لا تزال مغلقة، وبات افتتاح أية طريق أو تنظيفها محتاج لقرار من مكتب الأمن الوطني، كما كل الأمور المتعلقة بداريا، بما فيها قرار السماح باستخدام المقبرة لدفن الموتى حتى الذين قضوا خارجها، حيث تم الأمر عبر طلب قدمه للمكتب شفيق العزب المدير العام لـ"الهيئة العامة للمنافسة ومنع الاحتكار"، الذي ينتمي إلى عائلة دارانية مشهورة بولائها للنظام وتنفذها داخل أجهزته، حتى أن البعض يتداول -في إشارة إلى ذلك- عبارة "داريا العزب" مقابل العبارة المشهورة "سوريا الأسد".

بذلك عاد موتى داريا إليها قبل أحيائها، ربما لأن النظام قد ضمن أن أحداً منهم لن يخرج من قبره ليقاومه، أو لأن القصف الذي تعرضت له المقبرة لم يستطع أن يهدمها -كما فعل بباقي أحياء المدينة- فصارت هي المكان الوحيد المناسب للعودة!

ما تبقى من المدينة وفي المساحات التي وصل إليها بعض العائدين، بدأ أبو سامر (56 عاماً) بترميم منزله الذي لم يبق منه شيء. "ترميم ما تبقى من منزلي يحتاج لملايين؛ ما قمت به فقط هو إزاحة الركام ومحاولة إحاطة البيت بسور صغير سكنت خلفه مع عائلتي" يقول أبو سامر. الدخول لداريا بموجب البطاقة بات سهلاً -كما يشرح- ولكن إدخال مواد البناء أو أي أغراض أخرى يكون بدفع إتاوات تقدر بحسب مزاجية الضابط المناوب على الحاجز. لم يكن المنزل الذي سكنه أبو سامر طيلة فترة نزوحه عن المدينة أقل سوءاً من منزله الأصلي "يعني المي بالسطل والكهربا لمبة ومطبخ وحمام ما في، رجعت أسست من الصفر" يعدد أبو سامر بسخرية ونفاذ صبر مردفاً "رجعنا لزمن جدي وستي".

لا أملك ما أعلق به على كلامه، ربما استطاع أن يصل إلى بيته محاولاً إنعاشه في رمقه الأخير، لكن البقية لن يكون لهم حتى فرصة وداع بيوتهم قبل نقل أشلائها إلى حيث تكون مجرد حجارة.