حين تعمل المرأة في حرق النفط الخام

حرّاقات النفط الخام | ريف دير الزور | عدسة أحمد | خاص عين المدينة

من مخيّم سعلو للنازحين، انتقلت السيدة (س) مع أطفالها الخمسة شمالاً إلى قرى الخابور، هرباً من الوضع الكارثيّ في المخيم وأملاً بفرصة عملٍ في مكانها الجديد. وهو ما حدث فعلاً، إذ حصلت (س) على وظيفةٍ في واحدةٍ من حرّاقات النفط العشوائيّة المنتشرة هناك.

من سعلو إلى الخابور

بعد نزوحها مع عائلتها من بيتهم قرب مطار دير الزور العسكريّ إلى مخيّم سعلو في ريف المحافظة الشرقيّ؛ حاولت هذه الأم الثلاثينية أن تحمي أولادها وبناتها من الجوع والضياع، لكن هذا لم يحدث في المخيّم المعروف بتردّي أوضاع ساكنيه المعيشية. مما دفع بها إلى البحث عن مكانٍ آخر تتوافر فيه بعض أسباب العيش، فقادت أسرتها إلى قريةٍ صغيرةٍ على ضفة نهر الخابور، ذلك النهر الذي لم يتبقّ منه إلا الاسم بعد عقودٍ متلاحقةٍ من الجفاف. كانت أعمال النفط بأنواعها المختلفة، من استخراجٍ وتكريرٍ وتصفيةٍ إلى البيع، قد أتاحت فرص عملٍ للكثير من السكان. في البداية تعلمت (س) مهنة التكرير العشوائيّ بواسطة الحرّاقات البدائية من نسوةٍ أخرياتٍ يعملن في حرق النفط، لتحصل بعد ذلك، وبعد أن أتقنت العمل، على وظيفةٍ بأجرٍ يوميٍّ في حرّاقة. وهي فرصةٌ ثمينةٌ بالنسبة إليها، رغم صعوبة العمل والمشقة الكبيرة فيه، إضافةً إلى خطورته وآثاره السيئة على صحّتها. لكن، وكما تقول: "لقمتنا معجونة بالتعب. وأنا أكافح وأتحمل كلّ شي عشان ولادي".

خرج ولم يعد

لم تبدِ (س) أيّة رغبةٍ في الحديث عن زوجها، واكتفت بالقول إنه تركهم في هذه الظروف الصعبة وذهب. لا تشكو هذه المرأة كثيراً إنما تتسلح بالصبر والإرادة. فساعات العمل الطويلة أمام كتلة النار والدخان في حرّاقة النفط عملٌ شاقٌّ لا يتحمّله كثيرٌ من الرجال فكيف بامرأة؟! لكن نجاحها في تأمين لقمة الخبز لأبنائها يستحق هذا العناء. ووفق تعبيرها: "هذا هو جهادي.. أن أبقى فوق رؤوس أبنائي أوفّر لهم ما استطعتُ من كسر خبزٍ ليعيشوا".
تتحدّث (س) عن حرق النفط كأيّ خبيرٍ بتفاصيل مهنته ومشكلاتها؛ فللنفط الخام أنواعٌ مختلفةٌ بعضها لا يستغرق وقتاً طويلاً للتكرير، والبعض الآخر يستهلك أكثر. وخزّان حرّاقة (س)، الذي يتّسع لخمسة براميل، قد يستغرق تسخينه عشر ساعاتٍ في الوجبة الواحدة وقد يستغرق وقتاً أقلّ. والأجرة اليومية واحدةٌ مهما تغيّر النوع، ألفا ليرةٍ عن كلّ وجبةٍ أو عملية تكريرٍ في الحرّاقة. "عملي نصّ يوم تقريباً. وعدد الساعات يتغير على هوا نوعية النفط. بي نفط يأخذ مني أكثر من 12 ساعة حتى يخلص حرقه وفرزه، وبي نوعية ما تأخذ حتى 5 ساعات. وبالنوعين أجرتي ألفين ليرة باليوم ما تزود وما تنقص". لا يكفي هذا المبلغ اليوميّ، في مرّاتٍ كثيرةٍ، لسدّ احتياجات منزلها أو خيمتها. وفي مرّاتٍ كثيرةٍ أيضاً يتوقف العمل كله بسبب اضطرابات سوق النفط العشوائيّ ومشتقاته؛ فأيّ اشتباكٍ يقع على طريق التجار القادمين من ريف حلب يوقف عملية البيع وبالتالي التكرير والحرق، مما يعني فقدان الأجرة اليومية للسيدة التي تخشى كثيراً من مثل هذه الاضطرابات.

أمنيةٌ صغيرة

ليس لدى (س) طموحٌ مهنيّ، بأن تطوّر أعمالها النفطية وتصبح مثلاً صاحبة حرّاقةٍ تشتري النفط الخام على حسابها وتكرّره في حرّاقتها الخاصة وتبيعه. فلو امتلكت المال الكافي لإنشاء حرّاقةٍ ستترك هذا العمل فوراً، وستشتري عدداً من رؤوس الماشية من غنمٍ أو بقرٍ وتعمل في تربيتها. فهذا عملٌ أفضل ألف مرّة - وفق تعبيرها - من حرق النفط الخام. وهو كذلك أقلّ حرجاً لها ولأولادها وبناتها. ويتيح لها وقتاً إضافياً تقضيه معهم، فهي لا تستطيع العناية بهم الآن بما يكفي، وابنتها الكبرى تقوم بهذا الدور بعد أن تركت المدرسة. بل وتعتني بأمها أيضاً، بتحضير الماء الساخن والصابون لها عندما تعود مساءً بلباس العمل؛ الثوب الطويل والجزمة البلاستيكية والحزام عند البطن، واللثام الأحمر الذي يتحول في نهاية اليوم إلى اللون الأسود بسبب الدخان. تتذكر (س) أن استنشاق الدخان الأسود لوقتٍ طويلٍ كلّ يومٍ قد يسبب لها أمراضاً خطيرة، ولكنّ هذا لن يوقفها أبداً عن العمل.