جواز السفر السوري بين السجن الأسدي وأفق السوريين

تقول إحدى الفكاهات التي يتداولها السوريون حول جواز السفر: يكتب على غلاف جواز السفر الأمريكي (حامل هذا الجواز تحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية فوق أي أرض وتحت أي سماء)، وعلى جواز السفر البريطاني (ستدافع المملكة المتحدة عن حامل هذا الجواز حتى آخر جندي على أراضيها)، وعلى الجواز الكندي (سنحرك أسطولنا من أجلك)؛ أما جواز السفر السوري فمكتوب عليه (عند فقدان هذا الجواز فإنك تدفع الغرامة…).

تختصر العبارات في الفكاهة حقيقة قيمة المواطن في تلك الدول، ومدى استعدادها لخوض حروب من أجل مواطنيها، وهو ماحصل كثيراً عبر التاريخ؛ في حين تتحول حكومات الاستبداد إلى مجرد جابي ضرائب أو محصل أموال، وتحوّل المواطن إلى فرصة للاستثمار. وفي ظل نظام كنظام الأسد، لاتفوت حكومته فرصة إلا وتحصل من المواطن على ضريبة ما، أو غرامة تذهب مباشرة من جيبه إلى جيوب رموز النظام ومسؤوليه، فتأخذ بيدها اليسار ما أعطته كراتب أو تعويض بيدها اليمين، على قلّته.

بالعموم السوري ليس إنساناً متنقلاً مسافراً، فقد كان لسياسة النظام الاقتصادية والاجتماعية دوراً كبيراً في تحويله من مواطن قد يبحث عن الرفاهية والسفر إلى مواطن باحث عن لقمة العيش داخل بلده، حين عملت على إفقاره؛ فسحقت الطبقات المترفة والوسطى، وحلّ محلها مسؤولو النظام وعائلاتهم ومواليهم، في حين يرتع باقي الشعب في ظل فقر مدقع جعل من ابن اللاذقية يحلم برؤية البحر، وابن ديرالزور لايرى آثار بلده، وابن دمشق -إن كان طموحاً- يقضي شهر عسله في حمص، أو في قريته التي ينتمي إليها، وهكذا.

لطالما راود حلم السفر أغلب السوريين في ظل السياسة التي اتبعها نظام الأسد، لكن القدرة على السفر كانت صعبة المنال، بل وحصرها النظام إلى دول تشابهه، بل ويستطيع التحرك فيها أمنياً وبلا جواز سفر، مثل لبنان والأردن والسودان؛ كما كان يكتب على جواز السفر: يمنع السفر إلى: وتفتح قوسٌ تكاد لا تغلق، حسب علاقة النظام مع تلك الدول؛ فانحصر السفر -بشكل شبه كلي- بالطلاب الموفدين، أو بعض الهاربين الباحثين عن لقمة العيش، خاصة في دول الخليج، لذلك فمعظم السوريين لم يكن يعرف شكل جواز السفر، أو حتى كيفية استخراجه.

في عام 2000 شجعني صديقي على استخراج جواز سفر، علني أجد فرصة عمل في إحدى الدول الخليجية التي يعمل بإحداها، وذلك بعد تخرجي؛ وبالفعل بدأت الإجراءات التي تتفرع عن طريقتين، فإما استخراج سريع بمدة معينة، وبتكلفة تصل إلى 6000 ليرة سورية، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت على موظف مبتدىء يشكل المبلغ راتبه لشهرين؛ أو استخراج غير سريع يأخذ الحصول عليه مدة تتراوح بين أسبوع وشهر، حسب المتقدم للحصول عليه، وتكلفته حوالي 1500 ليرة.

اضطررت لأخذ أسبوع إجازة من عملي لأتابع إجراءات الاستخراج، والتي تعرفت من خلالها على معظم دوائر الدولة؛ فللحصول عليه من دائرة الهجرة والجوازات يجب السير في دائرة تبدأ من الأمن الجنائي فالسياسي إلى شعبة التجنيد، ومن ثم النفوس والمالية ومديريّتي التي أعمل بها؛ وبعد رحلة استمرت أسبوعاً حصلت عليه، ولمدة سنتين فقط، تنتهي بعدها فاعليته، لأني لم أؤدِّ الخدمة الإلزامية في الجيش. وعندما أخبرت أحد أصدقائي بما عانيت وماحصل معي، ضحك وقال لي ببساطة (لو أعطيت الشرطي فلان 200 ليرة لأحضره لك للمنزل دون أن تمرّ بكل هذا العذاب) طبعاً في كل دائرة تمرّ بها لابد من دفع المعلوم، حتى تنتهي أوراقك بسرعة، من يومها وقصة جواز السفر تذكرني بحال المواطن السوري وقيمته بالنسبة إلى النظام الذي يحكمه.

مع اندلاع الثورة السورية، تقاطر الآلاف على دوائر الهجرة للحصول على جوازات سفر، في استشعار لما سيحصل لاحقاً، ما جعل نظام الأسد يستثمر فيه بشكل مضطرد، فرفع الرسوم إلى أكثر من 10 أضعاف، ومن ثم لأرقام فلكية، حسب حالة الشخص؛ فتسعيرة الجواز تأتي من أهمية الفرد بالنسبة إلى دوائر أمن النظام وأفرعه، فالمطلوب أمنياً له تسعيرة خاصة، والمنشق عن دوائر النظام له تسعيرة أخرى، والمطلوب للخدمة العسكرية له تسعيرة، وتتراوح تلك الأرقام ما بين 100 ألف إلى مليون ليرة؛ كما استثمر نظام الأسد في جوازات السفر عبر سفاراته وقنصلياته في الخارج، وأصبحت مصدراً من مصادر ابتزاز السوريين، وتحصيل (العملة الصعبة)، إذ تراوحت الأسعار والرسوم بين 400 إلى 1000 دولار، حسب الحاجة والشخص، وتصل لأكثر من ذلك في حال الاستعجال.

المعارضة السورية، وعبر مؤسساتها، لم تستطع انتزاع حق السوريين في إصدار جواز سفر خاص بهم، خاصة لمن هم خارج سوريا، سوى فترة قصيرة جداً، فيما سمّي جوازات الائتلاف، واستثمرت فيها أيضاً، وكأنها مهنة مربحة لمن يشرف عليها، وجميعنا يذكر قضية جوازات الائتلاف وتزويرها، وكيف تمّت سرقتها وارتفاع سعرها.

جواز السفر السوري لم تصبح له قيمة لدى السوريين إلا عندما أرادوا الهروب من وطنهم، وتبقى قيمته مرتبطة بمعاناتهم وارتباطهم بوطنهم، فيرتفع سعره كلما زادت معاناتهم، وينخفض كلما أطبق الوطن سجونه عليهم، فالجواز الذي استخرجته في السجن الأسدي قبل الثورة ظل بغلافه جديداً، ولم أفتحه.