تحت حكم الأسد.. صار لأهل مدينة دير الزور وجوه أخرى وبعضهم بلا وجوه

شارع الوادي - حي الجورة - دير الزور - خاص

في شوارع الوادي والجورة والحوض، التي تحوّلت إلى أسواق مزدحمة، تُشاهد وجوهاً بملامح غريبة لجنود وعناصر ميليشيات من العراق وروسيا وأفغانستان ولبنان، وتسمع لغات ولهجات شتى. لم يعد الحضور البارز لهؤلاء يُثير فضول أو استغراب أحد من أهل دير الزور.

لمن أمضى وقتاً طويلاً في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، يبدو الفضاء البَصَري في مدينة دير الزور اليوم، وخاصة حيي الجورة والقصور اللذَين ظلّا تحت سيطرته، غريباً جداً. شوارع مغلقة بـ «بيكآبات» تحمل قواعد أسلحة رشاشة، كتابات حائطية تُمجّد جيش النظام أو فروع مخابراته، أو الميليشيات، أعلامه مرسومة بدرجات إتقان مختلفة، فضلاً عن صور لبشار الأسد أمَرَ المُحافظ الجديد بتجديدها وإبرازها في لوحات كبيرة في مفارق الطرق الرئيسية. وزيّ عسكري يرتديه مراهقون وشبان، وكهول حتى، يحمل بعضهم شارات لـ «الدفاع الوطني» أو «لواء القدس» أو «قوات النمر» أو «الحرس الثوري»، وبدرجة أقل لـ«حركة الأبدال» أو «النجباء» أو «حزب الله» و غيرها من الميليشيات.

لا تزال آثار استعمال الحطب والورق والأقمشة والأحذية والنفايات البلاستيكية لأغراض الطبخ خلال الحصار ظاهرة على معظم واجهات المنازل. وعلى وجوه الناس، ممن بقوا في المدينة خلال السنوات الماضية، بانت علامات تعب وإرهاق وهرم مبكر، ولم تعد النظرات من عيونهم تُعبّر، كما كانت، عن تحدّ واستكشاف وثقة بالنفس، إنما صارت مذعورة، مترددة، هاربة من رعب مزمن، ومُروّضة على مقام واحد هو الخضوع. وحتى النزق والسلوك العصبي، وغير ذلك من طباع «الديريين» الحادة، استؤصلت من طباع الأغلبية.

كان (م) تاجراً حتى صيف العام 2012، حين دمّرت غارة لطيران النظام مستودعاً لبضاعته وسط المدينة، فخرج إلى الريف قبل أن يعود إلى حي القصور محاولاً استئناف عمله التجاري، لكنه فشل بذلك وأفلس بالتدريج، لينتهي به الحال واقفاً وراء عربة خضار. في الماضي عرف (م) بين أصدقائه بالأنَفة والكرم وبحدّة الطبع، لم تُبق الظروف القاهرة من هذه الخصال شيئاً، وصار يتودّد لشخصٍ نافذٍ من معارفه للحصول على عقد إطعام لواحدة من الميليشيات، يكون فيه مجرد واجهة لهذا الشخص. لا يبدو أنه مُدرك لما حلّ به من تردٍّ، وسوى الشكوى من ضيق ذات اليد والغلاء ليس له حديث.

يقول عبد الله -اسم وهمي- وهو موظف عاد مُؤخّراً بعد سنوات قضاها نازحاً في دمشق، إنه لم يألف بعدْ التغيرات والمظاهر الجديدة في مدينة دير الزور «بالشام بي ناس كثيرة حافظت على حالها، وما تغيّرت، وقدرت تخفي اللي بداخلها، هون أحس ما ظل بي شي أصلاً لحتى يتغبى» فبالسر وبالعلن ليس لدى الناس سوى قضية واحدة، هي البقاء على قيد الحياة وتحسين شروط هذا البقاء تحت ظل النظام، وبتقبل راسخ ونهائي له. ليس حباً فيه، كما يشرح عبد الله، وإنما انصياعاً لما يرونه قدراً ثبّته ولا جدوى من العناد أمامه.

هنا في دير الزور اليوم، ينقسم الناس إلى فئتين، الأولى تُمثل الأغلبية المُستسلمة لكل ما يجري دون إبداء أي درجة من الامتعاض، إلا بالحدود المسموحة التي تضع اللوم على الفاسدين المحليين الذين «يُؤخّرون عودة الحياة إلى سابق عهدها قبل الثورة»، وفق ما يقولون في أحاديثهم التي تدور حول شأن واحد هو الغلاء وغياب الخدمات العامة. وأما الفئة الثانية فتضم المرتبطين بجوّ الأفرع الأمنية والميليشيات وسماسرة وتجار الحرب، وجعلتهم الحماية والامتيازات التي يحظون بها، أشد جرأة في الدفاع عن النظام وتبرير أشنع الجرائم التي ارتكبها حتى في الحالات التي كان فيها أصدقاء وأقارب وربما أشقاء لهم، ضحاياها.

«ليش ما انقصفت الجورة والقصور، ليش ما سجنوني أنا، وليش ما كنا نشوف شيعة وإيرانيين بالدير قبل الأحداث!» هذه التساؤلات وغيرها هي العدّة الكلامية الأثيرة على قلوب مؤيدي النظام والمرتبطين به، حين يحلو لهم التأسّي بطريقتهم مما حل بمدينة دير الزور من خراب. ويُغالي البعض منهم باصطفافهم إلى جانب الأسد إلى درجة لومه لأنه لم «يُحرقهم من أول يوم، كان ما صار كل اللي صار بهالبلد».