بلا جسور..
أسواق الضفتين وتنظيم الدولة الإسلامية

من إصدارات داعش

كثر الحديث، بعد قصف آخر الجسور في دير الزور، منذ ثلاثة أشهر، عن الأعباء التي صار يتحملها الأهالي للتنقل بين ضفتي الفرات، الشامية في الجنوب الغربيّ للنهر والجزيرة في شماله الشرقيّ. وراح النشطاء الإعلاميون ينقلون الأسعار الجديدة للمواد، بعد أن أصبح التجار يدفعون تكاليف إضافيةً لنقل بضائعهم بالسفن (العبّارات) النهرية. على أن المشهد الاقتصاديّ الجديد يشي بأبعد من ذلك، إذ جاء تدمير الجسور ليكلل عملية انتقالٍ في البنية الاقتصادية للمنطقة، بعد أن أنهكت الحروب والصراعات بنيتها الاجتماعية.

تعتمد المنطقة على تربية الماشية والخدمات أساساً، ثم ارتبطت بالزراعة أكثر فأكثر، خاصّةً مع انتشار الزراعات الصناعية، كالقطن والقمح والشوندر، التي عمل ارتباط تسويقها بالحكومة السورية لنصف قرنٍ على زيادة التمركز حول المدن الرئيسية (مدينة دير الزور عاصمة المحافظة، والميادين والعشارة والبوكمال جنوب النهر) التي استأثرت بالجسور التي ربطت الضفتين. وأسهم الطريق الواصل بين تلك المدن في إنعاش ريف الشامية، الذي صار يُنظَر إليه على أنه «أكثر وعياً» من باقي مناطق المحافظة، لكن، قبل ذلك، أكثر اندماجاً باقتصاد دير الزور، الذي صارت تربية الماشية والزراعة والتجارة ووظائف الدولة والنقل ركائزه الأساسية. على أن التهريب من العراق وإليه، والعمل في الخليج العربي، كانا ركيزتين إضافيتين في اقتصاد خط الجزيرة، أسهما في تشكيل خيارات وميول الأهالي بعد الثورة، ومما كان لها دورٌ كبير، بالإضافة إلى عوامل أخرى، في انطلاق تنظيم الدولة من هذا الخط للسيطرة على كافة أراضي دير الزور، ثم جعل الميادين عاصمةً إداريةً لما أطلق عليه اسم «ولاية الخير».

انهيار العاصمة

رغم نزوح سكان المناطق التي انتشر فيها الجيش الحرّ لم تفقد مدينة دير الزور ثقلها، لاحتكارها الدوائر الرسمية التي ظلت تحت سيطرة النظام، وتعلق البيروقراطيين في أرجاء المحافظة من موظفي القطاع العام بتلك المناطق، لكنها فقدت سوقها المركزيّ والأكبر، الذي تقاسمت وراثته أسواقٌ مركزيةٌ في الميادين خاصّةً والبوكمال والعشارة، وأسواقٌ أخرى طرفيةٌ كسوق الكسرة في الريف الغربيّ. وبينما ترك قسمٌ من موظفي القطاع العام وظائفهم طوعاً، منذ انتشار الحرّ منتصف 2012، أسهمت الملاحقات الأمنية، لاحقاً، في دفع قسمٍ آخر إلى اختيار البقاء في مناطق الثوار، لكن موظفين كثراً آخرين ظلوا يتنقلون بين تلك المناطق ومناطق سيطرة النظام، إلى أن دفعهم تنظيم الدولة، في بداية 2015، إلى اتخاذ موقفٍ نهائيّ، بفرضه حصاراً محكماً على الأحياء التي يسيطر عليها النظام من مدينة دير الزور، مما اضطرّهم إلى المغادرة تباعاً إلى القامشلي ثم إلى دمشق.

يعامل تنظيم الدولة المتبقين من الأهالي في الأحياء التي يسيطر عليها من المدينة معاملةً يندر وجودها في أماكن أخرى، ففي حين يفرض عليهم رقابةً مضاعفةً فإنه، بالمقابل، يوفر الكهرباء والماء مجاناً، وبساعات تقنينٍ قياسيةٍ بالمقارنة مع مناطق خارج المدينة. وكذلك يتدخل مالياً، بحسب شهادات، لخفض أسعار المواد الأساسية عن طريق دعم بعض التجار الذين تعتمد عليهم المدينة في توفير احتياجاتها. ويفيد إعلاميون من المدينة أن التنظيم لم يتأثر كثيراً بعد انهيار جسر السياسية جرّاء استهداف الطيران الروسيّ في تشرين الأول الفائت، لأن جبهات المدينة فرضت عليه حرب الشوارع التي لا تحتاج إلى آلياتٍ ثقيلة، كما أنه يملك فيها مستودعاتٍ ضخمةً من السلاح والذخيرة.

الضفاف التي ما زالت تتباعد

خسرت دير الزور أول جسورها مبكراً، بعد أن دمرت الفصائل الإسلامية في المدينة جسر كنامات، كحلٍّ دفاعيٍّ ضد هجمة قوات النظام في نهاية 2012. وبدأ استعمال الزوارق الصغيرة للدخول إلى المدينة والخروج منها بسبب الحصار المتبادل المضروب من قوّات النظام والجيش الحرّ، أحدهما على الأحياء التي تحت سيطرة الآخر، في 2013. وللسبب ذاته استعملت الزوارق بين قريتي البوليل والصبحة شرق المدينة، ثم تطوّر الأمر إلى استعمال عبّاراتٍ ضخمةٍ (سفن نهرية مصنوعة من البراميل في الغالب) تنتقل عليها السيارات وحافلات النفط، فضلاً عن الأفراد، في الريفين الغربيّ والشرقيّ، إلى أن عمّ ذلك على طول النهر بعد خروج كافة الجسور عن الخدمة بسبب قصف طيران التحالف.

يتوخى أصحاب العبّارات الأماكن التي يكون فيها ارتفاع الماء مناسباً للتنقل. وتفصل بين المعبار (مكان وقوف العبّارات على الضفة) والآخر مسافة 10-15 كيلومتراً. ويقف عند كلٍّ منها عنصرٌ من التنظيم أو أكثر، لتنظيم الحركة. وظلت المعابر، منذ إنشائها، هدفاً لطيران النظام ثم روسيا. يتقاضى أصحاب العبّارات 100 ليرةٍ سوريةٍ عن كلّ شخص، و200 عن الدراجة، و500 عن السيارة. أدّت الحمولة الزائدة في بعض الأحيان إلى غرق عبّاراتٍ تحمل براميل نفطٍ أو سياراتٍ كبيرة، كما أدى سوء تصنيع بعضها إلى حوادث مؤسفةٍ خلفت ضحايا مدنيين. ويملك التنظيم عبّاراتٍ خاصةٍ به، في مناطق إستراتيجية، لنقل مركباته، استهدفت بعضها رشاشات طيران التحالف منذ مدّة، بحسب ما يتناقل الأهالي.

حاول تنظيم الدولة إعادة تأهيل بعض الجسور، وإصلاح الطرق التي استهدفها التحالف مخلفاً عشرات الحفر التي يزيد ارتفاعها على ثلاثة أمتار، لكنه لم ينجح إلا جزئياً. ففي جسر العشارة رُدم الجزء المنهار، لكنه بالكاد عاد طريقاً للمشاة والدراجات النارية، ولم يستطع تقريب المسافات التي بعدتها، قبل طائرات التحالف، نيرانٌ أخرى.

أسواقٌ جديدةٌ وإداراتٌ محلية

نُشرت على شبكة الإنترنت، في الآونة الأخيرة، العديد من لوائح الأسعار الجديدة، التي من المفترض أن تكون قد ارتفعت بسبب ارتفاع أجور نقل البضائع بين ضفتي النهر، لكن دون أن ترفق بلائحةٍ للأسعار قبل قصف الجسور، للمقارنة. على أن تزامن القصف مع قدوم فصل الشتاء، وخروج كمياتٍ كبيرةٍ من النفط الخام أو المكرّر إلى أسواقٍ خارج مناطق سيطرة التنظيم، جعل أسعار المحروقات تتضاعف، فقفز سعر برميل المازوت خلال أيامٍ من 18 ألف ليرةٍ إلى 42 ألفاً، ما قد يكون أثر، إلى جانب سقوط الجسور، في أسعار المواد، التي لم ترتفع أكثر من 20%، بحسب أحد التجار. لكن ما حدث هو تذرّر الأسواق المركزية إلى أسواقٍ أصغر، للخضار والمواد الاستهلاكية والماشية، على الضفة المقابلة في خط الجزيرة، وانتعاش أسواقٍ كانت صغيرةً إلى وقتٍ قريب.

بدأت الأسواق الصغيرة والهامشية تحاول منافسة الأسواق المركزية منذ اندلاع الثورة. وأخذت المنافسة أشكالاً صراعيةً ذات وتيرةٍ متصاعدةٍ وصلت إلى الصدام أحياناً. فسوق الماشية (الماكف) الذي بناه في مدينة العشارة، مع بداية الثورة، أحد أفراد عائلة النجرس، رآه البعض في القورية تهديداً لسوقهم الصغير، واقتتلت بسببه فئاتٌ أهليةٌ من المنطقتين وجوارهما في بداية 2013، إلى جانب فصائل استعملت في الاشتباكات الأسلحة الثقيلة التي أوقعت ضحايا من الطرفين، ووقعت بالنار أول محاولة اقتسامٍ لمركزية سوق الميادين شرق دير الزور.

صرف استثمار النفط والدعم الخارجيّ الأنظار عن اقتصاد المنطقة الأساسيّ، على أن تعطل طريق الشامية بسبب الحرب، واعتماد طريق شمال النهر، ساعد في نمو حركة التجارة والخدمات في قرى وبلدات ونواحي الجزيرة بنسبٍ متفاوتة، مع احتفاظ المدن بمكانتها. فكانت الثروة الطارئة تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ السلطة في ذلك الوقت، من جهة توزعها وانتشارها على طيفٍ بشريٍّ واسعٍ متوازن النفوذ، وتبادل الموافقة الضمنيّ بين الفاعلين على أدوارهم الجديدة.

ورغم تكريس التنظيم مدينة الميادين في الشامية عاصمةً لـ«ولاية الخير» (دير الزور)، يسهم فصل الضفتين اليوم في النموّ المتسارع لأسواق الجزيرة التي كانت، إلى وقتٍ قريب، تقتصر على تجارة المفرّق وتقديم بعض الخدمات البسيطة للجوار. بينما يبرز اليوم سوقٌ لتجارة الخضار والمواد الاستهلاكية بالجملة في الطيّانة والجرذي وذيبان، وينطلق حديثاً ماكفٌ في قرية درنج أنشئ برعاية تنظيم الدولة، تبلغ تكلفة استثماره 25 مليون ليرةً في السنة، ويتوقع أن يستقطب التجار من قرية شحيل حتى أبو حمام. كما يدور الحديث عن منطقةٍ صناعيةٍ يعمل التنظيم على إنشائها بالقرب من الماكف، تجمع فيها كافة محلات صيانة السيارات في الجزيرة.

ليست مصادفة أن ينتمي قادةٌ محليون كثرٌ في التنظيم إلى شمال النهر، وبالتالي بطانتهم والعناصر التي يمدون التنظيم بها، كما أن انتقال جزءٍ من الثقل الاقتصاديّ إلى هناك ليس مصادفة. وتفيد شهاداتٌ اليوم أن عناصر محليين في التنظيم يديرون مناطقهم دون الرجوع إلى القيادات في مراكز الولايات والقواطع، مما حوّل المنطقة إلى مناطق، تدار بما يشبه الإدارة المحلية، مع وجود سلطةٍ عليا تستمد «شرعيتها» منها، هي سلطة التنظيم.

البوكمال ومركزيتها الجديدة

ضم التنظيم مدينة البوكمال وريفها إلى مناطق في العراق، تحت اسم «ولاية الفرات». وراحت تربطها، مذّاك، نشاطاتٌ اقتصاديةٌ مع العراقيين الذين وجدوا فيها مكاناً مناسباً لتبادلاتهم التجارية، خاصّةً في ظل التسهيلات والمزايا التي يتمتعون بها في «دولتهم» الإسلامية، العراقية أساساً، قياساً بالسوريين. ورغم ظهور أسواقٍ بديلةٍ في الجانب السوريّ تغطي ريف البوكمال في الجزيرة، كسوق هجين، إلا أن المدينة حافظت على علاقاتها بكافة مناطق دير الزور، لاحتوائها على سوقٍ نفطيٍّ كبيرٍ يتجمع فيه التجار من ريف الدير لبيع النفط ومشتقاته لتجارٍ أكبر يتولون بيعه في الأطراف الجنوبية من البادية السورية أو في دمشق والسويداء، كما تستقطب البوكمال تجار الماشية من البادية الذين يتسوقون منها حاجاتهم من الخضار والمواد الاستهلاكية.

أسهمت الكثير من الظروف في انقسام الأسواق أو انهيارها، لا سقوط الجسور فقط. لكن سقوط الجسور، في النهاية، سيكرّس هذه الحصيلة السابقة إلى وقتٍ طويل.