انهيارٌ متسارعٌ في الواقع الطبيّ لدير الزور وتنظيم الدولة يتدخل بافتتاح كليةٍ للطبّ في الرقة

من أرشيف مشفى موحسن الميداني

تصنّف منظمة الصحة العالمية سورية في حالةٍ طارئةٍ إنسانياً من الدرجة الثالثة، وهي الدرجة الأشدّ خطورةً في السلّم الذي تعتمده المنظمة. وفي دير الزور، وهي المحافظة المتخلفة أصلاً في مستوى الرعاية الصحية العامة قبل الثورة، بالمقارنة مع المحافظات السورية الكبرى، يبدو الوضع أسوأ.

فقد شهد واقع الخدمات الصحية تراجعاً كبيراً خلال السنوات القليلة الماضية، وازدادت حدّة هذا التراجع خلال الأشهر الستة الأخيرة، التي وقعت فيها المحافظة تحت سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية". فقد تناقص، مرّةً أخرى، عدد العاملين في الحقل الطبيّ، وخاصّةً الأطباء الاختصاصيين والعامين، الذين شهدت المحافظة موجة نزوح جديدة لهم. ويقدّر بعض العاملين الطبيين نسبة من هاجر من أطباء دير الزور بعد الثورة بأكثر من 80% من العدد الكليّ لهم قبلها. وتركّزت موجة النزوح الأخيرة في الطواقم العاملة في المشافي العامة والميدانية، أي المؤسّسات الصحية التي تقدّم خدماتها بالمجان، بالتزامن مع عجز معظم السكان عن تحمّل تكاليف العلاج والكشف الطبيّ في المشافي والعيادات الخاصة، أو دفع ثمن الدواء، نظراً لارتفاع مقدار هذه التكاليف بالمقارنة مع المتوسط العام للدخل، نتيجة الانخفاض الكبير في قيمة الليرة السورية.
وكان لهجرة العاملين في الحقل الصحيّ، من أطباء وفنيين وممرّضين، دورٌ كبيرٌ في تراجع أو إغلاق بعض المشافي والمستوصفات العامة والخيرية. إذ تكاد مشفى البوكمال العامة أن تغلق أبوابها بعد نزوح معظم موظفيها. في حين كان للغارات الجوّية إسهامها في إغلاق مشافٍ أخرى، مثل مشفى الطبّ الحديث في مدينة الميادين، التي دمّرت طائرات الأسد أجزاء واسعةً منها. وتتعرّض كلٌّ من مشفى موحسن الميدانيّ في ريف دير الزور الشرقيّ، ومشفى الكسرة في الريف الغربيّ، لاستهدافٍ متكرّر. ويفسّر أحد الأطباء الميدانيين، رافضاً الكشف عن اسمه، سبب مغادرته، وكثيرٌ من زملائه، بحالة اليأس والإحباط العامّ وتراجع الآمال بمستقبلٍ أفضل: "فالطبيب إنسانٌ أيضاً، يعيش في هذا المجتمع ويعاني ما يعانيه أفراده، من واقعٍ ينتقل من سيّءٍ إلى أسوأ".
وإلى جانب مغادرة العاملين في الحقل الطبيّ، تبرز مشاكل نقص الدواء والمستلزمات الطبية كأحد أبرز مسبّبات الانهيار المتسارع للمنظومة المؤقتة، التي كان النشطاء الطبيون المحليون قد تمكنوا من تأسيسها كبديلٍ عن منظومة وزارة صحّة النظام. إذ تختفي بعض أنواع الأدوية الضرورية لأسابيع عدّةٍ من الصيدليات والمشافي. ويفسّر أحد الصيادلة في مدينة الميادين هذه المشكلات بتراجع نشاط المنظمات والهيئات الطبية بسبب العوائق القانونية واللوجستية التي ظهرت بعد الشهر السادس من العام الماضي، وهو الشهر الذي أكمل فيه تنظيم "الدولة" سيطرته على محافظة دير الزور. إذ تقلصت المرونة المتاحة أمام هذه المنظمات في دعم وتمويل مشاريع صحيةٍ جديدة، أو اكمال رعايتها لمشاريع قائمة. كما خلق إغلاق كلٍّ من معبري تل أبيض وجرابلس الحدوديين عائقاً كبيراً أمام وصول المساعدات الطبية إلى المحافظة، وخاصةً مع صعوبات ومخاطر النقل انطلاقاً من المعابر الأخرى، بحسب ما يقول الصيدليّ الذي نبه إلى هشاشة الإمكانات الصحية أمام أية جائحةٍ أو وباءٍ قد ينتشر فجأة. وهو تهديدٌ قائمٌ بالفعل، حسب ما يؤكد كثيرٌ من العاملين في الحقل الطبيّ.
وأثارت خطوة تنظيـم "الدولة الإسلامية" بافتتــاح كليةٍ للطب في مدينة الرقة سخريةً كبيرةً في أوساط الأطباء، وخاصةً مع اختصار عدد سنوات الدراسة فيها إلى ثلاثٍ فقط، وفق ما جاء في الإعلان الذي صدر حول هذه الكلية، التي خفّفت شروط الانتساب إليها من شرط معدّلات النجاح المرتفعة، مكتفيةً بمعدّل 80% لمن حصل على شهادة الثانوية الفرع العلميّ، أو يخضع الحاصلون على
المعدّل ذاته في الشهادة الإعدادية لامتحانٍ تنافسيٍّ للذين لم يحصلوا على شهادة الثانوية، بحسب الإعلان. ويؤكد أطباء أن مصير هذا المشروع هو الفشل، بسبب افتقار التنظيم إلى الكوادر المؤهلة للتدريس في هذه الكلية، إضافةً إلى الشروط "الغريبة" للانتساب إليها، فضلاً عن الافتقار إلى البنية الفنية اللازمة. ويكشف إعلان افتتاح هذه الكلية عن إحساسٍ بدأ يتكوّن لدى التنظيم بخطورة الوضع الصحيّ العام، وعن محاولته لتقديم الحلول، وإن جاءت غير منطقيةٍ ومرتجلة.