الموصل، بوصفها «دابق» الفعلية

Bulent Kilik - AFP

منذ تصريح البغدادي لصحيفة النبأ، التي يصدرها تنظيم الدولة الإسلامية، بأنه «ليست هذه معركة دابق الكبرى التي ننتظرها»، لتبرير الانسحاب من دابق بريف حلب وأراضٍ أخرى، والأنظار تتجه إلى حقبةٍ تاريخيةٍ ينتظرها التنظيم غير التي تمرّ بالمنطقة، لكن الوقائع والأحداث تشير إلى مكانٍ جغرافيٍّ مختلفٍ فقط، وهو الموصل.

جادل كثيرون، اعتماداً على التسريبات والمعلومات الزهيدة، بأن التنظيم العراقيّ، بقياداته وهيكليته، كان قد «احتل» أراضٍ سوريةً في فترة توسعه، لكن عراقيين يرفضون ذلك، وينسبون التنظيم بشكله الجديد إلى السوريين، على أن قادة التنظيم ظلوا ينفون أي انتماءٍ لغير «الدولة الإسلامية» التي لا تعترف بالجنسيات والتقسيمات السياسية. ورغم أن المقاتلين السوريين أعطوا التنظيم، بالإضافة إلى الموارد التي يسيطرون عليها، زخماً كبيراً، منذ 2013، وأناساً مستعدين لتلقي الأوامر نظراً لغياب أهدافٍ واضحةٍ عن تشكيلاتهم، فضلاً عن الاستراتيجية والهيكلية الصارمة؛ إلا أن تنظيم الدولة ظل عراقياً، وقد ضاعفت ذلك، وأخرجته إلى العلن، معركة الموصل الجارية.

ففي مرحلة التجهيز للمعركة تداول إعلاميو التنظيم ومناصروه على مواقع التواصل الاجتماعيّ أن «ما حصل سابقاً لم يكن سوى مقدمةٍ لأشرس معركةٍ منذ زمن»، وذلك رغم الخسائر الضخمة التي تكبدها التنظيم في معاركه السابقة، خاصةً في عين العرب/كوباني وجنوب الحسكة. ثم أتى «بحث» عبد الله القيسي -أحد مشاهير التنظيم إعلامياً- والذي تناقلته «الحسابات المناصرة»، ليتكلم عن الأمر صراحة، فيعيد عداء السلفية الكلاسيكية للتنظيم إلى «عداءٍ خفيٍّ بين عرب الشمال -الهلال الخصيب- ووادي النيل، وعرب الجنوب في الجزيرة العربية» و«احتقارٍ اجتماعيٍّ وراء استمرار فوبيا من العراق»، ليختم بحثه بأن بداية النهاية قد حانت «حين انتصب رمح الله العراقيّ مواجهاً قرن الشيطان النجديّ»، في إشارةٍ الى دولة التنظيم والدولة السعودية. ثم ليأتي إصدار «القلعة العصياء، الموصل» من المكتب الإعلاميّ لـ«ولاية الخير» (دير الزور)، ليؤكد أن الموصل ليست كباقي المناطق التي حارب عليها التنظيم.

ورغم بعض إعلاميي التنظيم، الذين صاروا يحاولون بعد بدء المعركة، التقليل من شأن الموصل بالنسبة إلى «الدولة»، عن طريق الدعاية «للعمليات الانغماسية والاستشهادية المتجددة بشكلٍ مستمرٍّ في أنحاء الولايات»، إلا أن كلمة البغداديّ الأخيرة كانت حاسمةً في هذا الموضوع، إذ إنها نسفت الاستراتيجية التي رسمها العدناني حين صرّح «لا نجاهد لحماية الأرض»، في كلمته منتصف السنة الجارية «ليحيى من حيّ عن بيّنة». وقد علق وقتها إعلاميو التنظيم ومناصروه عليها بأن «الدولة حريصة على أرواح العناصر، وليس على الأرض التي لا تعني لها شيئاً». لكن خطاب البغدادي، الذي تزامن مع بداية معركة الموصل (معركة الأحزاب)، والذي لا يمكن التعليق عليه إلا بأنه حضٌّ على أو تمهيدٌ لانتحارٍ جماعيٍّ مقابل الحفاظ على المدينة لخلاص جماعته، يقول «أورثكم الله هذه الأرض المباركة، وحملكم أمانة الدفاع عنها. فاحذروا أن يستزلكم الشيطان بانحيازٍ عن أرض، أو انسحاب من ثغر». فتكتيك «الانحياز»، الذي لطالما اتبعه التنظيم في المناطق التي حارب فيها، سيكون في معركة الموصل من عمل الشيطان، بحسب البغدادي، رغم أنه التكتيك الذي دعا إليه العدناني، ودافع به إعلاميو التنظيم عن خسارته الأراضي التي كان يسيطر عليها، وعلى رأسها دابق.

وقد ترجم هذا إصدار «وعد الله» الذي أصدره المكتب الإعلاميّ لـ«ولاية نينوى» منذ أيام، حين يخلع الأهمية الرمزية على الموصل بعد أن سحبها من دابق. إذ «أوشك العدو على الانهيار الكبير» كما يقول المعلق في الإصدار، وقد اجتمعت «الأحزاب لاستئصال شأفة الدين». وفيه يعترف -أو يروّج لأول مرّة- بمشاركة «الرعية» (المدنيين) في القتال إلى جانبه، ليقول إنها «حربٌ شاملةٌ فاصلة» على أسوار «إمبراطورية الموصل» كما يروّج إعلاميو التنظيم، الذين يعملون بكل طاقتهم لمواكبة أحداثها، وتفصيل وقائعها، والنشر المستمرّ لأصغرّ نتائجها. فبحسب هؤلاء فإن «خير أهل الأرض قتلوا في ولاية نينوى».

لأن الموصل أكبر حاضرةٍ يسيطر عليها التنظيم، يزداد احتمال سقوطه أو تشرذمه بسقوطها، وخسارة البقية الباقية من هالته التي تبدو باهتةً اليوم. وهو يستنهض كل إمكانياته لمنع ذلك، في تناغمٍ مع عناصره الذين يبدون كأنهم يدافعون عن وجودهم ذاته بالدفاع عن المدينة. على أنه سبق كل هذا ما سعى الإعلام الرسميّ والمناصر للتنظيم إلى القيام به في الفترة الأخيرة، من رسم صورةٍ نهائيةٍ لدولته الحالية، وتقديمها للعلن كمادةٍ يعتمد عليها المؤرخون والمتابعون. فقد شرح آلية عمل التنظيم وهيكليته الإدارية، وجمع إصداراته ونشراته ودورياته وملصقاته ومراجعه، في ما يشبه الأعمال الكاملة، أو سيرةً ذاتيةً لكاتبٍ في خريف عمره.