المشهد السياسي في دير الزور.. مواقف متعددة وتوترات متجددة وصراعات مفتوحة

تكشف المواقف السياسية لأبناء محافظة دير الزور حدة وعمق الصراع السياسي والاجتماعي فيها، والتي رغم تقاطعاتها في بعض المواقف الفرعية، إلا أن جذرها الأساسي يجعل من المستحيل تقاربها، على أن غالبية أصحاب هذه المواقف يشتركون في عدم مقدرتهم على فرض أو تنفيذ رؤاهم ومشاريعهم التي تعبر عنها، إما بسبب تحالفاتهم مع قوى محلية وإقليمية ودولية تغلّب مصالحها الاستراتيجية، أو عدم انتظام الأفراد والجماعات غير المتحالفين مع مثل تلك القوى في أطر سياسية ذات ثقل اجتماعي واقتصادي، وسيبلور تدخل السعودية الجديد في المنطقة مواقف جديدة دون أي أفق لدعم مستديم وآمن لقواها.

تُبنى المواقف السياسية عموماً على خيارات الأفراد والجماعات حيال قضايا سياسية، ويتحكم في انحيازهم هذا العديد من العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بينما تبنى التحالفات السياسية والاجتماعية على أساس التقارب الفكري والأيديولوجي أو العدو المشترك أو تغير الظروف السياسية والمصالح المرتبطة بها، وبقدر ما كان المجتمع السوري عموماً يعاني من حالة انغلاق سياسي حتى عام 2011، انخرط بعده أفراد وشرائح اجتماعية متعددة في الشأن العام، وتعددت المواقف السياسية بعد انطلاق الثورة، واستمرت هذه المواقف بالتبدل والتفاعل مع التغيرات التي أفرزتها مراحل الثورة المختلفة.

واليوم تبدو خريطة المواقف والتحالفات السياسية أكثر وضوحاً وتعقيداً بآن، وتعبر بشكل كبير عن انعكاس الإرث الذي راكمته الأحداث التي مرت على المحافظة، والأثر الذي تركته وعممته على مواقف شرائح اجتماعية واسعة من جهة، وعلى العلاقات الاجتماعية من جهة أخرى.

يتبنى أهالي دير الزور أساساً ثلاثة مواقف سياسية رئيسية: "المعارضة لنظام الأسد، الموالاة لنظام الأسد، والحيادية" منذ انطلاق الثورة، ومؤخراً يمكن ملاحظة مواقف سياسية فرعية ضمن هذه المواقف الرئيسية، تختلف وتتقاطع فيما بينها كلياً أو جزئياً، حيال عدد من القضايا والقوى السياسية والعسكرية في المحافظة: "المعارضة، نظام الأسد، مجلس سوريا الديمقراطية، التواجد الروسي والإيراني والأمريكي والتدخل التركي". على أن هذه المواقف السياسية عمومية، ولا يشكل أفرادها بالضرورة مجموعات متسقة ومنتظمة، ويتحكم فيها طبيعة العلاقة مع سلطات الأمر الواقع، والمستوى الاقتصادي والمصالح الخاصة والعامة، ومستوى الخدمات والظروف الأمنية.

الموالون للنظام

تعيش الغالبية العظمى من الموالين للنظام في مناطق سيطرته، وهم إضافة إلى عدائهم الشديد للثورة، يتبنون موقفاً معارضاً أيضاً لنفوذ أمريكا في المنطقة، وحليفها المحلي المتمثل ب"مجلس سوريا الديمقراطية". 

ترى فئات واسعة من الموالين الروس والإيرانيين حلفاء أساسيين، ويجب بناء علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية معهما؛ هذا ما تجسد على أرض الواقع من خلال الميليشيات المحلية الموالية للطرفين المنتشرة في المنطقة، والعديد من التحالفات الاجتماعية والاقتصادية معهما. بينما يبدي البعض تحفظهم أو عدم رضاهم عن النفوذ الإيراني، ويرون في الروس وحدهم حلفاء استراتيجيين، دون أن يملكوا قنوات للتعبير عن موقفهم هذا بشكل علني سوى السخرية غير المنتظمة من التمدد الشيعي على وسائل التواصل الاجتماعي، ويعزى موقفهم إلى محاولات الإيرانيين في تغيير الوجه الثقافي والديني عبر سياسات التشييع التي ينتهجونها، وتدور ما بين هاتين الفئتين صراعات عسكرية متعددة لفرض نفوذهما، أبرزها الصدامات العسكرية في مدينتي الميادين والبوكمال، وحوادث الاغتيالات المتبادلة في مناطق متفرقة بدير الزور.

المعارضون

أما المعارضون لنظام الأسد فيتواجدون خارج مناطق سيطرته في الداخل السوري ودول اللجوء، ويتوفر لديهم مناخاً أكثر حرية في اتخاذ مواقف سياسية متعددة ومركبة، ومجالاً كبيراً للتعبير عن آرائهم بشكل واضح؛ فإضافة إلى موقفهم الجذري المعارض للنظام، واعتبار الوجود الروسي والإيراني قوى احتلال أجنبي، من ثم يجب مقاومتها سياسياً وعسكرياً- فإنهم يعبرون أيضاً عن آرائهم حيال قوى عسكرية وسياسية منخرطة ومتدخلة في الثورة السورية أيضاً، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام أو بعض الوقفات الاحتجاجية ضد انتهاكات بعض الفصائل المسلحة وتنظيمي "داعش والنصرة"، كما تطال انتقاداتهم مكونات وأحزاب ومؤسسات ثورية أيضاً.

تتعدد وتتناقض مواقف المعارضين من النفوذ الأمريكي ومجلس سوريا الديمقراطية في دير الزور؛ فهناك الانطلاق من معطيات الواقع الميداني والسياسي وضرورة التحالف مع الولايات الأمريكية من جهة، والتنسيق والتعاون مع مجلس و"قوات سوريا الديمقراطية (قسد)" بشكل مؤقت من جهة أخرى؛ وينخرط أصحاب هذا الموقف في تشكيلاته العسكرية وبنى وإدارات الحوكمة التابعة له، أو في منظمات مدنية خدمية، أو تحالفات اجتماعية مع سلطاته، ويتعرض هؤلاء لانتقادات وتهديدات كثيرة من عدة أطراف وصلت إلى اغتيال أحد أعضاء "المجلس التشريعي".

وهناك رفض الانخراط تحت المظلة السياسية لمجلس سوريا الديمقراطية، ويصر متبنو الموقف أن يكون لأبناء دير الزور منظومة حوكمة وإدارة مدنية مستقلة عنه بالتنسيق المباشر مع الأمريكيين وحلفائهم، واقتصار علاقتهم مع المجلس على التنسيق في قطاعات الأمن والحماية والاقتصاد، وهم متواجدون بشكل أساسي في مناطق الشمال والشمال الشرقي في سوريا وفي بلدان اللجوء، والتقى بعضهم مع الخارجية الأمريكية لطرح وجهة نظرهم تلك، إلا أنها لاقت رفضاً قاطعاً من قبل مجلس سوريا الديمقراطية.

وصولاً إلى الرفض المطلق للتحالف مع أمريكا وضرورة مقاومة سيطرة "الأكراد" وطردهم من المناطق العربية في الجزيرة السورية عموماً، ويمكن ردّ هذا الموقف إلى أربع عوامل أساسية؛ الأول: التوتر العربي-الكردي المتجذرة في المنطقة وتأججها إبان الثورة السورية، والثاني: التعاون العضوي ما بين حزب الاتحاد الديمقراطي ونظام الأسد الذي سلم الحزب الكردي مواقع عديدة في الجزيرة السورية بعد الثورة، والثالث: الاستقطاب السياسي للأفراد المنخرطين في تحالفات إقليمية يشكل تصاعد الدور السياسي والعسكري للمكون الكردي تهديداً قومياً بالنسبة لها، والرابع: الحساسية التقليدية من التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ينتشر هؤلاء الجذريون أساساً في مناطق الشمال السوري، ومتحالفون غالباً مع الحكومة التركية باعتبار "الأكراد" عدواً مشتركاً لهما، وشاركوا في عملية "غصن الزيتون" في منطقة عفرين، ويشترك قسم منهم أيديولوجياً مع "هيئة تحرير الشام".

الحياديون

تضم دير الزور شرائح اجتماعية -غير قليلة العدد- حيادية أو مسلوبة الخيارات السياسية، تتوزع في كافة مناطق تواجد السوريين، غير مسموح لهم في مناطق النظام أساساً التعبير بما يخالف الموقف الرسمي له، مهما رأوا فيه من تناقض وعدم موضوعية. الحياديون، ويشاركهم بعض الموالين، لديهم انتقادات تتعلق بسوء الخدمات العامة، ومخاوف جراء الانتهاكات التي ترتكبها الميليشيات المحلية والأجنبية المنتشرة فيها: كابتزاز السكان والاعتداء على ممتلكاتهم والتضييق الأمني عليهم، وتحكم عناصر الميليشيات بمؤسسات الدولة؛ يعبرون عنها بين الحين والآخر في المجال العام.

وتتمثل أولوياتهم في مناطق سيطرة مجلس سوريا الديمقراطية -والنزوح واللجوء- في إنهاء الحرب والأزمة الإنسانية للسكان، ويحمّلون مسؤولية  المأساة العامة في البلاد لكافة أطراف الصراع، وجل همهم البحث عن الأمان وتأمين متطلبات الحياة اليومية على حساب المطالب السياسية والحقوق العامة، إلّا أن لدى قسم منهم  بعض المرونة في التحوّل إلى موقف سياسي عام حيال الثورة ونظام الأسد ومجلس سوريا الديمقراطية، والتواجد الأمريكي والروسي والإيراني في محافظة دير الزور، ما بين الرفض والتأييد وفقاً لأماكن تواجدهم الجغرافية ومصالحهم الخاصة ومدى استفادتهم من الظروف والمزايا التي توفرها هذه القوى في مناطق سيطرتها.

ورغم أن الكثير منهم في مناطق سيطرة مجلس سوريا الديمقراطية لم يكن لديهم مشكلة مع سلطته، إلا أن قبولهم بها كان مؤقتاً بسبب معاناتهم الكبيرة خلال فترة سيطرة تنظيم "داعش"، ومكابدتهم أكلاف الحرب والنزوح. إذ ظهرت بينهم مطالب خدمية واقتصادية وسياسية واجتماعية، تجسدت باعتراضات على طريقة إدارة المجلس، وسوء الأوضاع الأمنية والخدمية، وعبروا عنها ضمن المظاهرات التي حصلت في المنطقة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هؤلاء لا يفضلون بالضرورة العودة إلى مناطق سيطرة النظام، رغم محاولته استمالتهم عبر المصالحات المحلية، لتخوفهم من غدر الأجهزة الأمنية للنظام والميليشيات المنتشرة في مناطقه، وهو ما وقع فعلاً على عائدين من بينهم.

عودة إلى السبهان

ترسم هذه المواقف العامة والفرعية خريطة الصراع السياسي وأبعاده الانقسامية ما بين الأفراد وشرائح اجتماعية في دير الزور تتبنى مواقف متباينة، في ظل حالة الاستعصاء السياسي الدولي والإقليمي إزاء القضية السورية، والمتمثل في التوترات السياسية الأمريكية-الروسية، والأمريكية-التركية، والأمريكية-الإيرانية، وإذا ما أضفنا إليها محاولات استثمار تنظيمي "داعش والقاعدة" في هذه التوترات والمواقف السياسية، وإمكانية تأثيرهما في المشهد السياسي في الشرق السوري، فإننا أمام واقع من المرجح أن يزداد تعقيداً وتأزماً بشكل يجعله مفتوحاً على تعزيز وإضافة تناقضات وتوترات وصراعات تورث المنطقة المزيد من التفتت الاجتماعي.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار التطورات السياسية الأخيرة في دير الزور، والمتمثلة بزيارة وزير الدولة السعودي ثامر السبهان، والتي يرجّح محللون سياسيون أنها تهدف إلى دعم قوات من أبناء العشائر في دير الزور، يتمتعون خلالها باستقلالية نسبية عن "قسد"، لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، فإن هذا سيضيف عاملاً سياسياً جديداً سينتج عنه مواقف فرعية أخرى مختلفة ومتداخلة، إذ لن تحكم المنخرطين المفترضين في المشروع الجديد -إذا كان حقيقياً- خيارات واعية فقط، أو خلفيات اقتصادية واجتماعية وثقافية، بل سينفتح الأمر على العديد من التأثيرات الخاصة بالسكان المحليين أو القوى التي ستحاول الاستثمار في المستجدات، وعندها لن تنفع النوايا الطيبة -إن وجدتْ- في وقف معارك جديدة تبدأ بآلية تشكّل القوات الجديدة وقيادتها.