الغرقى وذووهم في دير الزور .. عادات تندثر والسباحة ليست سبب ارتفاع الأعداد

أثناء عملية البحث عن غريق في نهر الفرات (فيس بوك)

مع انحسار موجات الحر المتصلة، يمكن التدقيق في الغرق- أحد الظواهر الملازمة للصيف في دير الزور وعموم حوض الفرات، وما طرأ على عادات الأهالي في التعامل معه، كذلك البحث عن أعداد الغرقى الذين قضوا في النهر وارتفاعها في الأشهر المنصرمة وما يقف وراء ذلك من أسباب.

يمكن تلخيص علاقة الأهالي في دير الزور وعموم حوض الفرات بالنهر، بأن الأخير عشقهم وقاتلهم في ذات الوقت، فكم من أرواح أزهقت غرقاً في مياهه دون أن تكون رادعاً لغيرهم عن المغامرة وسطه. بعض الغرقى استطاع ذووهم إخراج جثثهم ومنهم من ذهبت جثامينهم مع مياه الفرات، ولا سيما مع غياب الأجهزة الحديثة للغوص سابقاً، وقلة إمكانيات الغواصين على ضفتي النهر الشرقية والغربية اليوم.

تلخص القصص المحفوظة عن التجارب في دير الزور ما للنهر من طبائع يمكن أن تتغلب على الأنسان، إذ احتفظ التاريخ الشفوي للأهالي بقصة "أبو عبار" أشهر سباحي العشرينات من القرن الماضي بدير الزور، وقد ابتلعه النهر رغم بنيته الجسدية وخبرته بالسباحة وإنقاذ الغرقى، فبقي هو وفيضان النهر في ذلك العام خالداً في ذاكرة الديريين.

تغيرت الكثير من الأمور منذ العشرينات حتى الآن، بقي الغرق يرافق الأهالي في علاقتهم بالنهر، لكن العادات اختلفت في التعامل معه. تقول السبعينية من دير الزور أم محمد، إن "أم الغريق تقابل النهر وتنادي ابنها، وترمي أرغفة خبز في النهر، لاعتقادها أن ذلك يساعد على أن تطفو جثته على سطح الماء". في إشارة إلى عادة ما زالت تحتفظ بها بعض الجماعات المعزولة على حوض الفرات وسط اختفائها في عموم المنطقة، بينما كان يحرص البعض على توزيع عرائس الحلاوة أو الدبس "لفات" على أطفال الحارة أو القرية.

تضيف الحاجّة أم محمد أنها سمعت من أمها أن حلقات حزن وندب "معادات" كانت تعقد على الشاطئ قبل أن يتم العثور على جثة الغريق إذا كان شابّاً، وأن من يتقنون السباحة ويتمتعون بنفس طويل، كانوا يبحثون عن جثة الغريق، ونادراً ما يتم العثور عليها قبل أن تطفو لوحدها على سطح النهر. وتلخص الأمر عبر موروث "الْمَيْ مالها أمان"، مردفة أنها لم تسمح يوماً لأحد أولادها بالذهاب إلى النهر للسباحة خوفاً عليهم من الغرق.

وتؤكد أم محمد في حديثها لعين المدينة أن حالات الغرق اليوم أكبر بكثير من السابق حسب اطلاعها، وتعزو ذلك إلى التفكك الأسري و"عدم سماع الأولاد كلام الأهل، والذهاب إلى النهر دون علمهم"، رغم أنهم لا يتقنون السباحة، ما يجعل غرقهم أمراً شبه محتوم.

وعن العادات التي كانت ترافق وتتلو غرق أي من أبناء دير الزور تقول أم خالد الستينية من مدينة دير الزور، أن الجنازات الكبرى التي تلي جنازات الشيوخ من حيث حضور المشيعين كانت للغرقى، وذلك لما يصاحب وفاتهم من انتظار لاستخراج جثثهم، في حين يعقد الرجال والنساء معادات يندبون بها الميت، وتقف في وسط المعادة امرأة تجيد الإلقاء والحض على البكاء في داخل نفوس المشاركين في التشييع.

وتوضح أنه إذا لم يكن الغريق أو المتوفى متزوجاً، تكون الجنازة أشبه بعرس أو زفاف ترافقه زغاريد النساء، كما تقوم بعض النسوة بـ"طش الكرميلة" وتعني هنا نثر السكاكر على الجنازة.

وتضيف أم خالد أن منظر أم الغريق قديماً كان مثيراً للشفقة لما تقاسيه من مرارة انتظار السباحين كي يخرجوا جثمان ابنها، وقد تبقى على الشاطئ أياماً تنام وتصحو وهو تدعو وتلقي أرغفة الخبز في الماء، وتحاكي الفرات كي يعيد لها ابنها، ولكن هذه العادات تكاد تندثر في أيامنا هذه وفق أم خالد وآخرين تحدثت إليهم "عين المدينة"، إذ أصبح الرجال هم من يرافقون الغواصة بالانتظار على الشاطئ، ولم تعد عمليات استخراج جثث الغرقى أياماً كما كانت بالسابق.

طقوس العزاء بالغرقى أو الأموات عموماً في دير الزور أيضاً اختلفت، حيث أصبحت تقتصر على الدفن ومن ثم تلقي التعازي، تتم بحسب حالة ذوي الغريق أو المتوفى المادية والاجتماعية، فالبعض يتلقى التعازي في المقبرة، ويقتصر العزاء في المنزل على الأقرباء والأصدقاء، بينما يستأجر الميسورون صالات تفتح أياماً لتلقي العزاء.

  الغواص سائد حواش الذي يعمل على إخراج جثث الغرقى في مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) من دير الزور، تحدث لـ"عين المدينة" عن الصعوبات التي واجهها من يعمل على إنقاذ الغرقى في السابق، وقال: "قديماً كان الاعتماد على السباحين الذين لديهم نفس طويل، لأنهم لم يكونوا يمتلكون عدة الغواصة، أو بالأصح لم يكن هناك غواصة بالدير"، وأضاف أن أم الغريق كانت تقابل الشاطئ ولا تذهب إلى بيتها إلى أن يُخرج السباحون جثة ابنها، أو تفقد الأمل في خروجه وتعود لمنزلها، لتفتح دار عزاء لميت دون جثة أو قبر.. وهذي قمة القهر".

وتابع الحواش أن الأدوات والعدة الخاصة بالغوص في أيامنا هذه ساهمت كثيراً في عمليات إخراج جثث الغرقى، ولاسيما مع انحسار نهر الفرات عمقاً وعرضاً، موضحاً أن العمق الأكبر للنهر في هذه الأيام هو سبعة أمتار، وهذا يسهم إلى حد كبير في العثور على الغرقى بسهولة وسرعة.

وأوضح الغواص لـ "عين المدينة" أن 57 حالة غرق شهدها شاطئ الفرات في منطقة الجزيرة (شرق الفرات) من دير الزور، وقد تم إبلاغه عن حالات تمكن من إخراج جثث الغرقى فيها، ولكنه لم يستطع استخراج جثث آخرين حتى تطفو جثثهم على سطح النهر، مبيناً أن الغريق في فصل الصيف يطوف جثمانه بسرعة أكبر من فصل الشتاء.

وعن أسباب ارتفاع أعداد الغرقى بنهر الفرات في ريف دير الزور، قال الحواش أن معابر التهريب لها دور كبير في الغرق، موضحاً أن هناك معابر بين مناطق سيطرة قسد والنظام يتم من خلالها تهريب الوقود والمواد الغذائية بين المنطقتين، وأن العبارات المستخدمة في التهريب أدت إلى حالات غرق كثيرة، ولاسيما مع تحميلها أكبر طاقتها، ويؤدي ذلك إلى اختلال توازنها وغرق من عليها إن لم يكن يستطيع السباحة، مؤكداً أن نسبة الأطفال بين الغرقى مرتفعة وذلك لعملهم في خطوط التهريب.

وعن الصعوبات والمشاكل التي تواجه عمل المنقذين والغواصين، أوضح الحواش أنه يعمل دون أجر "صدقة لوجه الله"، ولكن هناك تكاليف يجب عليه دفعها كأسطوانات الأوكسجين والوصلات الخاصة، ويعمل على تأمينها من المستشفيات و"أهل الخير" على حد تعبيره، لافتاً إلى أن المؤسسات التابعة لـقسد أو المنظمات لم تساعده في عمله أو مستلزماته.

وتطرق الحواش إلى دور المخالفات التي يتم ارتكابها بحق حرم نهر الفرات من خلال المقالع، ودورها الكبير في ارتفاع أعداد حالات الغرق، وذلك في ظل غياب الرقابة على هذه المقالع، التي يغرق في الكثيرون للعمق الذي تتركه عمليات سحب رمال النهر، والمفاجأة التي يسببها حتى لمن يعرف السباحة.

في مناطق النظام من دير الزور، نقلت صفحات محلية موالية على فيسبوك عن أحمد الصافي قائد فوج إطفاء دير الزور، أنه تم انتشال 16 جثة غريق من أصل 18 غرقوا في مناطق النظام حتى حزيران الماضي.