الأنظمة الاستبدادية وإنجازاتها العيانية..
متلازمة الدوّارات

أنهى مكتب الخدمات لدى تنظيم الدولة الإسلامية، منذ مدة، أعمال صيانةٍ للطرق في مدينة دير الزور، من طلاء حجارة الأرصفة والمنصفات وبعض جدران المدارس الواقعة في الطرق الرئيسية. وتوّج تلك الأعمال بترميم دوّار غسان عبود، الذي أتلفته قذائف وصواريخ وبراميل النظام على مدى الأعوام الأربعة الفائتة. فبدا شكل الدوّار المحدّث والمطليّ للتو، بقربه من جبهات الاشتباك، وسط الدمار الهائل وخلوّ المدينة من ساكنيها، غريباً، وذا دلالاتٍ بالغة الأهمية.

تشكل الدوّارات/ الساحات أحد مظاهر قوة وتقدم الدول الحديثة، حتى أن بعض البلدان تُختزل بصور تلك الإنجازات العامة. وبعيداً عن وظيفتها في تنظيم المرور، يأتي منظر الدوّارات وسط المدن، وحجمها الضخم، وما يترافق معها من مظاهر بصرية، كالتماثيل، ليفعل فعله في المجتمع دون ضجيج. وقد ارتبطت الساحات، أو تم تكريسها، للتجمهر والحراك الاجتماعي والنضال السياسي، وتأثرت بها أجيالٌ من سكان تلك الدول، كما تأثرت بها الأنظمة المتعاقبة في منطقتنا. إذ يبدو ذا دلالةٍ ترافق كل مشروع نهضةٍ على يد نظامٍ جديد، منذ قرنٍ وحتى الآن، ببناء دوّاراتٍ/ساحاتٍ في العواصم والمدن الكبيرة، ارتبطت أكثر الأوقات بالتحشيد الإيديولوجي، والتعبير عن «امتنان» الشعوب لتلك الأنظمة. بينما أصبحت الدوّرات في الربيع العربي هدفاً للمتظاهرين، ولقوى الأمن.

لم يكن لدوّارات/ساحات دير الزور حظٌّ من الناحية الجمالية العمرانية، ولا يزيد حجم بعضها عن حجم سيارة. وقد استعملها النظام أحياناً في عرض تماثيل «القائد». ليبقى دورها في تنظيم حركة المرور، الذي شكك فيه الأهالي على الدوام، إذ لا يخلو تاريخ أيٍّ من هذه الدوّارات من أعمال الإصلاح والهدم وإعادة الإعمار، بعد مدةٍ من إنجازه. ولطالما تناقل الأهالي العديد من قصص سوء التخطيط والارتجالية في العمل، عن هذا الدوّار أو ذاك، إلى جانب قصص الفساد الكثيرة التي كانت ترى في هذه المشاريع مجرد مصدر رزقٍ للمتعهدين والمسؤولين، الذين لا يحسبون حساباً كبيراً لمدينةٍ بعيدةٍ عن المركز، وغير موضوعةٍ على أجندة الحكام. لتأتي الدوّارات فيها كشاهدٍ على وجود «إنجازات»، ثم لتخضع وظيفتها الأساسية في تنظيم حركة المرور، في ما بعد، للتجربة وإعادة النظر.

رغم ذلك، تحمل الدوّارات/الساحات، في مدينة دير الزور، رموزاً ودلالاتٍ عدة. فيُشار بدوّار غسان عبود إلى الناس والحارات الهامشية البسيطة، والخروج على السلطة الاجتماعية والرسمية، وفي النقيض يقع دوّار السبع بحرات -حيث كان تمثال حافظ الأسد، الذي أزالته السلطات تحت ضغط المتظاهرين منتصف 2011- ويدل على المكانة الاجتماعية العالية والملتزمة، والقوة الأمنية. وقد كرست ذلك إطلالة بشار الأسد على هذا الدوّار عام 2007 أثناء إلقاء كلمته، في زيارته اليتيمة للمدينة خلال حكمه. وارتبط دوّار المدلجي، منذ سنوات، بمرحلة الاعتصامات من عمر الثورة في سلميتها، وصارت الساحة العامة العريقة، حيث كان تمثال الباسل أو الحصان، تعبّر عن كسر هيبة النظام مع إسقاط التمثال في نيسان 2011، ليطلق عليها الكثيرون ساحة الحرية.

تولى تنظيم الدولة الإسلامية، منذ سيطرته على دير الزور، أمور الخدمات والمرافق العامة، بالتوازي مع حرصه على احتكار الحياة العامة بفرض القوانين التي صبغت حياة الأهالي المشتركة بلونه، كفرض التدين بلون التنظيم، وقصر الشوارع على أعماله، فظهرت شعاراته وأفكاره فيها. وقد توخى الإجراءات اللازمة لربط سلوك الأهالي بعقيدته، بتحديد سماتٍ يجب على الجميع الالتزام بها، وإنشاء قوىً تنفيذيةٍ لذلك الغرض. على أن ذخيرة عناصره المعرفية، وفضاءاتهم، محددةٌ سلفاً بالحياة العامة التي عاشوها في دولهم (سوريا والعراق خاصّةً). وقد تزاوجت تلك المعطيات (احتكار المرافق العامة، وسم طابعه على المجال العام، معارف العناصر التي حددتها وأطرتها إنجازات الأنظمة السابقة) فأنتجت أول إنجازٍ قام به التنظيم في المحافظة، منذ سنتين تقريباً، وهو دوّارٌ صغيرٌ في مدخل ناحية البصيرة، 43 كم شرق دير الزور، ظل لمدةٍ طويلةٍ على شكل حجارةٍ مرصوفةٍ دائرياً، إلى جانب الطريق العام، في منتصفها تنتصب ساريةٌ ضخمةٌ عليها راية العقاب.

أنشأ تنظيم الدولة، في ما بعد، بعض الدوّارت، فضلاً عن طلاء وترميم دوّاراتٍ أخرى، حين أصبح في موقعٍ شعر معه أنه مطالبٌ بـ«إنجازاتٍ»، شكلت الدوّارات جانبها العيانيّ. ولكنها كشفت عن مدى سوء التخطيط والتنفيذ والارتجالية التي أنجزت فيها تلك الدوّارات على عجل، ولغرضٍ بعيدٍ عن غرضها المروريّ الأساسيّ. ودوّار غسان عبود، الذي يبدو اليوم بلا وظيفةٍ تذكر، خير دليلٍ على مدى تأثير فهم الأنظمة السابقة للقوّة والإنجاز في رجالات التنظيم، حين تبدو العقلية السلطوية مرتبطةً ارتباطاً وثيقاً بإنشاء الدوّارات.