إدلب.. هوامش الجحيم.. بين نزوحين وألمين

بعدسة الكاتب - خاص

"ما توخذيش كل الأغراض يا أم أحمد؛ خذي الشغلات المهمة.. يلا يابا يا حبيبي امشو قدامي، كلها يومين وبنرجع يا أم أحمد !!" بهذا الكلمات كان أبو أحمد يواسي زوجته وأطفاله وهم يخرجون من منزلهم تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي كما جسدتها إحدى مشاهد مسلسل "التغريبة الفلسطينية". لكن شعار النزوح السوري الجديد جاء مختلفاً، فلا عودة قريبة تواسيه، وأبو أحمدنا قال لزوجته "لتحملي كل الأمتعة معكِ.. ونحرق ما تبقى.. لا نريد أن نبقي لكلاب الأسد شيئاً".

تكرر المشهد مرات عديدة في ظل أحداث الثورة السورية، ولا سيما خلال السنوات الخمس الأخيرة، إذ أصبحت كلمة "نزوح" تعبر عن مرحلة طويلة من عمر الثورة، فسياسة النظام بالقصف الممنهج وتدمير القرى جعل أهلها أمام خيارين: العبودية أو إجبارهم على ترك مدنهم وقراهم.

تعددت محطات نزوحي من منطقة لأخرى، ولكني أذكر تماماً المحطة الأولى عندما ركبت السيارة برفقة عائلتي وحملنا بعض أمتعتنا الصغيرة، وحينها قال أبي "لا تاخدوا كتير غراض.. كم يوم وراجعين"، وركبنا السيارة من داريا إلى إحدى ضواحي الشام، فكانت التغريبة السورية، ولم نعد من يومها إلى داريا بعد، وكان ذلك أواخر العام 2012.

وصلت منذ سنوات إلى إدلب على متن رحلة نزوح جديدة، وكنت أظن أنها باتت مثوانا الأخير. ولكن لعنة النزوح لحقت بنا، وبدأت تلتهم أرياف إدلب وحماة رويداً رويداً.. حتى وصلت إلى مدنها الكبرى كالمعرة وسراقب.

عند نزوحي الأول من داريا لم أكن أدرك أن عودتي لها ستكون حلماً بعيداً. كنت في بداية نزوحي أتلهف شوقاً لرؤية بيتي من جديد، وأفكر دوماً في "هل ستكفي حبات القنبز (طعام للعصافير) التي وضعتها لعصافيري لعدة أيام أخرى قبل عودتي"؟، وحدث وقتها أن لطمت أمي جبينها بعد أن تذكرت أنها نسيت أن تغلق جرة الغاز جيداً قبل خروجنا، وكنت أقول لها "بعوض الله.. بكرة بس رجعنا منبدلها". كانت أيام النزوح تلك تمر علينا ثقيلة لا تريد أن تنتهي، وكنا نسلي أنفسنا بالعودة القريبة، حتى أننا لم نفكر بالبحث عن منزل جديد.

أما صديقي أسامة الذي نزح من ضيعة عابدين في ريف حماة، فكان يدرك تماماً أن العودة إلى منزله مرة أخرى ستصبح حلماً في ظل استمرار حكم الأسد. "لم تعد قوات الأسد تكتفي بحملة عسكرية على البلدات وارتكاب مجزرة بحق أهلها ومغادرتها، وإنما تتبع سياسة الاحتلال وإعادة البلدات الثائرة لحكمها"، قال أسامة الذي كان منهمكاً في شد غطاء السقف المكون من النايلون والبطانيات فوق غرفته الجديدة قرب الحدود التركية، وأردف "المكان هنا أكثر أمناً، وربما تُمنح هذه المنطقة لتركيا ويمكننا عندها بناء منزل عليها".

لم يكن أسامة وحده من تخلى سريعاً عن أمل العودة إلى بيته، فسياسة النظام المدمرة دمرت معها أحلام الكثيرين. وأثناء إعداده لرحلته من بلدة سرمين في ريف إدلب، يجهز أبو حمزة ليترات من البنزين وقداحة ليحول منزله إلى كومة من رماد، في حال ساءت الأوضاع واستطاع النظام دخولها. "صعب على الأنسان أن يرى بيته الذي ولد وعاش فيه يحرق أمامه، ولكن الأصعب أن يراه محتلاً وجنود النظام قد دنسته" قال أبو حمزة وهو يجمع أثاث منزله ليحشره في السيارة التي ستقله مع عائلته إلى إحدى المخيمات الحدودية.

عن نفسي، فإني لم أعد أحصي عدد المرات التي غادرت فيها منزلاً، ولكن شتان ما بين نزوحين وألمين كلاهما لم تكتب له عودة قريبة، ما بين نزوحي الأول الذي ظل معلقاً لفترة طويلة بأمل العودة القريبة، ولم أحمل فيه -أنا وأهلي- كل متاعنا، ونزوحنا الأخير الذي حملنا معه كل أثاث البيت ومضينا إلى المجهول، في رحلة بحث عن مأوى ليس من سماته أنه مؤقت، فلا بصيص أمل لعودة قريبة