أوربا:
جنة اللاجئين المفقودة

أثناء خروج لاجئين سوريين من الباخرة التي أقلتنهم إلى العاصمة اليونانية أثينا - عدسة د. علي حافظ - خاص

الكل في أوربا يتحدث -اليوم- عن الإسلام: الحكومات، البرلمانات، المؤسسات الثقافية، المراكز البحثية والاستراتيجية، السياسيون، الاقتصاديون، المحللون، المعلقون... الكل يحذّر من خطره على مجتمعاتها، لاسيما بعد العمليات الإرهابية الأخيرة التي ضربت عدداً من دول القارة العجوز: فرنسا، ألمانيا، بلجيكا... الكل يوجه أصابع الاتهام إلى اللاجئين المسلمين هناك، باعتبارهم يشكلون، بإصرارهم على التشبث بدينهم وهويتهم وعاداتهم وتقاليدهم، قنبلةً موقوتةً داخل تلك المجتمعات، يمكن أن تنفجر في أي لحظة، لتدمر بشظاياها الاستشهادية صروح الحضارة الأوربية!

كل وسائل الإعلام تتحدث عن قضية اللاجئين الجدد، وكأنهم «حصان طروادة» الذي سيفتح أبوابه الخيانية ذات يوم، ليخرجوا منه، بشعورهم المنكوشة وذقونهم الطويلة وعيونهم المكحلة، وينقضوا على الأوربيين الغارقين في نعيمهم الموهوم، فيقتلوهم، ويحرقوا مدنهم، ويدمروا بلادهم. في حين لا تترك وسائل الإعلام هذه مناسبةً إلا وتتحدث عن الأحزاب والتنظيمات المعادية للأجانب والمناهضة للمهاجرين ولوجود اللاجئين، ملاحقةً حتى أتفه أخبارها، عارضةً أصغر نشاطاتها، لتمنحها دعايةً مجانيةً دون أن تدرك نتائج ذلك؛ معمقةً الهوة بين مكونات المجتمعات الأوربية، مما سينعكس سلباً على الجميع في المستقبل القريب، إن استمرّت الأمور بنفس النهج والتوجه والسياسة...!

أصبح موضوع اللاجئين الجدد حديث الساعة، وكأنه ليس لدى الأوربيين همومٌ ومشاغل ومشاكل أخرى. ويستغرب المرء كيف يمكن لمجتمعٍ راقٍ حضاريٍّ -كالمجتمع الألماني مثلاً- أن يقع فريسة هذه الدعاية العنصرية الحمقاء، فتؤثر على خياراته الانتخابية، كما حدث في انتخابات مقاطعة ميكلنبورغ فوربومرن الغربية التي كانت ضمن ما عرف حينها بـ«ألمانيا الديمقراطية». فرغم التقدم الاقتصادي الذي شهدته هذه المقاطعة في عهد المستشارة أنجيلا ميركل؛ حقق حزب «البديل من أجل ألمانيا» الشعبويّ نجاحاً انتخابياً بحصوله على 20,8%، ملحقاً الهزيمة بـ«الحزب المسيحي الديمقراطي» الذي حصل على نسبةٍ لم تتجاوز 19% من أصوات الناخبين، وذلك قبل عامٍ من إجراء الانتخابات التشريعية في البلاد. إضافةً إلى تسجيله رقماً قياسياً -في الربيع الماضي- بنسبة 24% ضمن مقاطعة ساكس-انهالت. ثم جاءت الصاعقة مع نتائج انتخابات برلين، عندما تراجع حزب «الاتحاد المسيحي الديمقراطي» من 23.3% خلال انتخابات عام 2011 إلى 17.6%، في حين حصل حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليمينيّ على 14.2% من نسبة التصويت، ليتمكن من دخول برلمان مقاطعة برلين. بينما سجل الحزب «الديمقراطي الاشتراكي» -أقوى الأحزاب في العاصمة- تراجعاً ملحوظاً فحصل على 21.6%، وهو أدنى مستوى له. ما اعتبر إنذاراً قوياً واحتجاجاً واضحاً من قبل بعض الناخبين على السياسة الاتحادية لميركل، لاسيما سياستها تجاه اللاجئين التي ترفض تغييرها!

يبدو أن وسائل الإعلام لا تريد التحدث بتجردٍ وموضوعيةٍ عن حقيقة الأمور، محاولةً تسييس قضية اللاجئين إلى أبعد الحدود لغايةٍ في نفس يعقوب، وافتعال أزمةٍ بنيويةٍ واهيةٍ داخل الدول الأوربية التي استضافت أكبر عددٍ من اللاجئين -ألمانيا، السويد، فرنسا، هولاندا، الدانمارك، بلجيكا، سويسرا، النمسا- من خلال التشكيك فيهم، ووصم أغلبهم بالتطرف أو بقابليتهم له، واحتمال انقلاب بعضهم ضد الدول التي قدمت لهم الحماية القانونية وحق اللجوء... إنها تدعو إلى اتباع سياسةٍ حازمةٍ شاملةٍ لمواجهة أزمة اللاجئين المتطورة بشكلٍ مضطرد، بتشديد الرقابة عليهم، وتقييد حرياتهم، وتقليل مساعداتهم، ومنعهم من مغادرة مناطق إقامتهم، خوفاً من حدوث تكتلاتٍ للمهاجرين -داخل المدن الكبيرة- غير قادرةٍ على الاندماج، ويصعب ضبطها والتحكم في تداعيات تصرفاتها. بعضهم يقول: «نريد أناساً يعيشون بيننا، وليس غرباء بجانبنا»؛ ولكن كيف يمكن لهؤلاء أن يعيشوا معكم إذا كنتم تخافون منهم وترفضون التعرف إليهم والتحدث معهم، وتقتصر علاقاتكم -في بعض الأحيان- على كلمة hallo؟!

في الحقيقة، لولا المنظمات والجمعيات الأهلية والمسيحية -البروتستانتية والكاثوليكية- التي جنّدت آلاف المتطوعين لمساعدة اللاجئين، وتقديم بعض الدروس الأولية في اللغة الألمانية لهم، لما التفت إليهم أحد، وبقوا منسيين في غياهب المخيمات ودور الإقامة!

لقد قطع هؤلاء آلاف الكيلومترات، وعبروا البحر بقوارب مطاطيةٍ مكتظة، وتعرضوا لابتزاز وجشع المهربين الأتراك، وخطر اللصوص وقطاع الطرق في بلغاريا، ولاسيما عصابة المصارع دينكو فاليف، الذي بدلاً من ملاحقته وتقديمه للمحاكمة بسبب انتهاكاته الفظيعة لحقوق الإنسان ومطاردته العابرين وإخافتهم وشتمهم وتهديدهم بالقتل، وخصوصاً السوريين منهم، قام مؤيدوه وبعض الجماعات البلغارية الكارهة للأجانب بتكريمه ومكافأته على إنجازاته الإجرامية بسيارة مرسيدس قيمتها نحو 75 ألف دولار أميركي. وكذلك تعرّض هؤلاء اللاجئون لإساءة حرس الحدود في مقدونيا، حيث تم منعهم من الدخول باستعمال العنف غير المبرر، وتُركوا عالقين عند الأسلاك الشائكة لفترات طويلة. أما الشرطة الهنغارية فقد زجت بالعديد منهم في سجونٍ عسكريةٍ سيئةٍ للغاية، ومنعت عنهم الطعام والشراب، وقدمت لهم -في بعض الأحيان- طعاماً لا يصلح إلا للكلاب والقطط!

أظن أن جميع من يعاني كل هذه المعاناة، إضافةً إلى عيشهم في العراء أياماً طويلةً تحت المطر والثلج وأشعة الشمس الحارقة، حتى يصلوا إلى بلاد أحلامهم المفقودة؛ لا يمكنهم أن يشكلوا خطراً على الدول التي استقبلتهمم وأمنت لهم متطلبات الحياة الضرورية -السكن، الطعام، اللباس، الطبابة، الدراسة الأولية...- حتى يتم في ما بعدد تحسين أحوالهم وظروف معيشتهم، وتعليمهم اللغة، لدمجهم في المجتمعات التي أخذوا يخطون فيها أولى خطواتهم.

يفكر غالبية هؤلاء، إن لم نقل كلهم، بحياةٍ جديدةٍ كريمةٍ آمنةٍ لهم، وبمستقبلٍ واعدٍ لأولادهم...

ومن المعروف أن أغلب الحوادث الإرهابية التي جرت في البلدان الأوربية مؤخراً قام بها أفرادٌ يعانون من أزماتٍ نفسية، أو لديهم مشاكل في طلبات حصولهم على حق اللجوء، أو من خلال خلايا صغيرةٍ تضم في الغالب مهاجرين قدماء يعيشون على هامش المجتمعات ويشعرون بالغربة والعزلة والإقصاء، أو نتيجة ردة فعلٍ على إهانةٍ ما، كما حدث مع الأسبوعية الفرنسية الساخرة «شارلي إبدو» (Charlie Hebdo)، التي تعرضت لهجومٍ إرهابيٍّ مسلحٍ يوم 7 كانون الثاني 2015، أدى إلى مقتل 12 شخصاً -بينهم 8 من كوادر الصحيفة- وجرح 11 آخرين، بسبب إهانتها لنبي المسلمين محمد، برسومها الكاريكاتورية البشعة، بحجة حرية الرأي والتعبير!!

كل هذا يحرّض على طرح بعض الأسئلة التي تثير التفكير والتأمل، وتتطلب الإجابة عليها بعقلانيةٍ وشفافية:

هل اللاجئون المساكين الهاربون من جحيم متطرفي الإسلام الشيعيّ العلويّ (قوات الأسد، حزب الله اللبناني، الحشد الشعبي العراقي...) ومن متطرفي الإسلام السنيّ (داعش، تنظيمات القاعدة) يمكن أن يعيدوا إنتاج ما عاشوه هناك من مآسٍ وجرائم ارتكبت في حقهم وحق غيرهم من سكان المناطق التي جاؤوا منها؟

كيف يمكن لهؤلاء، الذين ذاقوا ويلات الحرب وكوارثها، أن يفكروا يوماً بإمكانية إشعال حربٍ ثانيةٍ في أماكن إقامتهم الجديدة؟

لماذا تقتصر العمليات الإرهابية على الدول الغربية، ولا تحدث -مثلاً- في إيران وروسيا الداعمتين الأساسيتين لنظام الأسد، والمشاركتين في قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلدهم؟

لماذا لا تُكشف للرأي العام ملفات العصابات الروسية، وغيرها من دول الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوربا الشرقية، التي تتاجر بالأسلحة والمخدرات والرقيق الأبيض، إذ يشكل هؤلاء أكثرية رواد السجون في الدول الغربية؟

لماذا لا يجري الحديث عن تجاوزات النازيين الجدد وترويعهم للاجئين بشكلٍ دائمٍ ومستمر؛ والذين يعدون عاراً على أوربا الحضارية، ويوماً بعد يومٍ يجرونها نحو الحضيض؟

لماذا يتم التركيز على النماذج السلبية والسيئة من اللاجئين، وتُترك النماذج الإيجابية المبرّزة في الكثير من جوانب الحياة الأوربية، لاسيما في المجالات الرياضية والفنية والعلمية والأدبية؟

لقد جلبت النظريات الشمولية -النازية، الفاشية، الشيوعية...- الموت والدمار لأوربا في النصف الأول من القرن العشرين، أما الآن فقد أخذت نظريات الإسلام العنفيّ الراديكالي تجلب القتل والخراب والتهجير، ليس للشعوب العربية والإسلامية فحسب؛ بل لكل شعوب الأرض!

علينا أن نتعاون معاً في العمل ضد هذه الآفة الخطيرة، مسخرين كل الإمكانات من أجل هذا الغرض. وعلى أوربا أن تتحمل هؤلاء اللاجئين الهاربين من الأنظمة الشمولية الاستبدادية ومن التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وتستوعبهم وتمد لهم الأيدي، حتى يتعلموا اللغة ويتثقفوا، ويتعرفوا على مبادئ حقوق الإنسان والحريات الحقيقية، وأصول الحياة المشتركة، بدلاً من تهميشهم واستبعادهم، والنظر إليهم كأناسٍ من الدرجات الدنيا، كي لا تولد لديهم ردّات أفعالٍ انتقاميةٌ غير محسوبة!

أغلب اللاجئين جاهزون لعمل كل شيءٍ في سبيل تقاربهم مع الشعوب المحلية واندماجهم في مجتمعاتهم الجديدة؛ لكنهم لا يعرفون ماذا يفعلون من أجل ذلك!

هم ينتظرون أن يخطوا الخطوة الأولى باتجاه جنتهم الأوربية المفقودة؛ فإما أن تكون خطوةً واثقةً ثابتةً نحو الأمام، أو أن تكون خطوتين إلى الوراء!!

في ميناء مدينة ميتليني مركز جزيرة ليسبوس