المرأة المعيل
محظورات أباحتها الحرب

محمد عبري

ارتفعت نسبة النساء اللاتي يتحملن مسؤولية، كانت قبلاً منوطة بالرجل، بعضهن حققن شيئاً من الانتصار على صعيد المساواة، إلا أن غياب الشريك الرجل أو عجزه أحياناً أوقع كثيرات منهن تحت ضغط نفسي واقتصادي كبير. زوجات، أخوات، أمهات، إن تأثير الحرب على تركيبة المجتمع عموماً، والأسرة خاصة ربما يحتاج إلى سنوات كثيرة لإدراكه.

في وضع اقتصادي متدهور، تأخذ كثير من النساء موقع المعيل ضمن العائلة، فتصير تلك الأنوثة التي طالما دفعت ثمنها بطريقة أو أخرى في مجتمع يرى في المرأة ضلعاً قاصراً، مخرج العائلة الوحيد أحياناً، خاصة بما يتعلق بأمر كان منوطاً بالرجل، ولأسباب أمنية أحياناً، وأخرى متعلقة بالخدمة الإلزامية، أو الهجرة، انتقلت تلك المسؤولية للمرأة.

معظم النساء لم يتم تحضيرهن لمثل هذا، فقد تربت تلك الأنثى في بيئة محافظة تعدها لنمط حياة مختلف، لم يعد متاحاً في الحرب التي تبيح المحظور.

تعمل أمل وهي شابة من أطراف دمشق محاسبة في بنك، وبفضل هذا العمل صارت تحظى ضمن عائلتها بالتقدير، غالباً ما «أوصف بأخت الرجال» تقول أمل التي لا تستطيع رغم ما أحرزته نسيان كل التعنيف الذي نالها من أخوتها الذكور، «سقطت كتير من القيود عني، ومع هيك لسا في غصة بقلبي» . ولأنها الشقيقة الوحيدة لأربعة شبان كلهم «مطاليب للخدمة أو للاحتياط» فهي تؤدي اليوم أعمالاً إضافية للعائلة لسهولة تنقلها عبر الحواجز.

أما ياسمين فقد خاضت حربها ضد التمييز، قبل زمن بعيد، وهو ما جعلها تربي ابنتها بطريقة مختلفة تماماً: «بنتي وحيدة، سفرتها على هولندا قبل سنتين وأنا واثقة من قدرتها على التأقلم والنجاح»، ياسمين كانت «كوافيرة» جمعت كل ما ادخرته لرحلة ابنتها قبل أن تصاب بكتفها وتعجز عن مواصلة العمل لتعتمد على ما ترسله ابنتها بعد أن فشلت محاولاتها اللحاق بها إلى هولندا.

 تضطر بعض النساء للعمل في أكثر من مهنة، وهذا ما يكسبهن مهارات جديدة، لكن مع مزيد من الضغط النفسي والتعب والإرهاق.

أم أيمن أرملة توفي زوجها قبل سنوات، افتتحت مع أبنائها مطعماً للطبخ الشرقي في حي الدويلعة، «كنا أنا وبنتي نطبخ، وابني الكبير يجيب المواد من السوق، والصغير يقعد بالمحل». رحل الأول قبل أربعة أعوام هرباً من الاحتياط، ولحقه الأصغر حين صار في سن الخدمة الإلزامية. «ضلينا لوحدنا وصارت هي تنزل على السوق، وأنا وجارتي نطبخ» لكن مع ارتفاع الأسعار لم يعد دخل المطعم يكفي مما دفع الابنة للعمل في محل ألبسة «بحس بتعبها، ما عم تشبع نوم، أحياناً من كتر انشغالها بحس إنو هي كمان سافرت».

تقول دانة ابنة أم أيمن «حاولت كتير بعد سفر أخواتي، اقنع أمي تسكر المطعم، لأنو ما عاد جاب همه» لكن الأم مصرة على إبقائه، فهو يشغلها عن فقد أبنائها. وتضيف دانة: «أخي الكبير بيبعتلنا كل فترة شي يعينا»، لكنه ليس بالمبلغ الذي يعتمد عليه، أما الأخ الأصغر فما زال في تركيا ، «يا دوب مدبر حالو»، مما دفع دانة للبحث عن دخل إضافي، فعملت في عدد من محلات الألبسة. ولأنها بلا خبرة تعرضت للاستغلال: «صاحب المحل اللي اشتغلت فيه ستة أسابيع، رفض يعطيني أجري»، عانت دانة من القلق والأرق، مما اضطرها لمراجعة طبيب نفسي: «قلي إني عم عاني من «الاحتراق الوظيفي» بسبب ضغط العمل»، وبعد التنقل بين مهن لا خبرة لها فيها حتى أنها عملت كـ «ديلفري» في أحد المطاعم، تضيف: «رجعت اشتغل بمحل ألبسة مستعملة هالمرة «بالة» مع أنو الدخل بسيط بس بضل «نعمة» خصوصي أنو صاحبة المحل لطيفة».

انخراط النساء في ميادين العمل، أحد أبرز الملامح التي باتت ترى بوضوح عقب اندلاع الثورة التي تحولت إلى حرب. قبلها، لم تكن المرأة المسؤول الرئيس عن دخل العائلة، فالسائد أن بناء الأسرة وتأمين دخل لها أمر منوط بالرجل، وإن كانت الزوجة أو الابنة أو الأخت عاملة، فدورها هنا يأتي كمساهمة، لكن الظروف الاقتصادية العصيبة التي بدأت مع الحرب وضعت شريحة جديدة من النساء في دائرة المسؤولية، حيث بات عليهن العمل لإعالة أسر كاملة أحياناً، خاصة أن نسبة كبيرة من العائلات السورية فقدت معيلاً على الأقل، قتلاً أو إصابة بالحرب أو هجرة أو اعتقالا، أو تخفياً خوفاً من السوق إلى «العسكرية».