بوستيج داعش

علٓق الديريون سخريتهم من مقابلة محافظ دير الزور؛ التي بثتها إحدى قنوات النظام، على باروكةٍ سيئة التصميم كان يضعها على رأسه. ومع أنّ وضع شعرٍ مستعارٍ عادةٌ شائعةٌ بين الرجال الصلع في سوريا، لكن الناس في الدير لا يحبّون المحافظ -الواقع أنه لا يوجد سوريون كثر يحبّون أيّ محافظ- وهم كانوا سيجدون طريقةً للسخرية منه حتى لو لم يضع باروكته السمجة.

قد يبدو مثيراً للاستغراب أن يكون "بوستيج" المحافظ –ما زال الديريون يحتفظون بالاسم الفرنسيّ العتيق للشعر المستعار- هو المدخل إلى رفض ما قاله الرجل في المقابلة التي بدت أشبه بجلسة تحقيقٍ حزبيةٍ منها بلقاءٍ تلفزيونيٍّ، حتى وإن كانت تفاصيل الحديث تتطرّق إلى حال دير الزور المأساويّ، محاصرةً من داعش، والنظام، ولا يجد أهلها -حوالى 200 ألف مدنيٍّ- حتى ما يمكن وصفه بخشاش الأرض؛ ليواصلوا حياتهم المكربة بلا أيّ نوعٍ من الخدمات اللازمة لاستمرار هذه الحياة.

ذهب الحديث في المقابلة، وعاد مراراً، إلى قضية مغادرة الديريين المحاصرين في حيّي الجورة والقصور لمدينتهم. وبدا المحافظ صريحاً أحياناً بعجزه عن تقديم أيّ حلٍّ سوى انتظار "قرار القيادة"؛ وهي إشارةٌ واضحةٌ لا يسمح له سقفه الوطنيّ بتجاوزها إلى صراحة الاسم.. بشار الأسد.

وبصرف النظر عن موقفهم اللاذع من "بوستيج المحافظ"، يعيش الديريون الآن، داخل الحصار وخارجه، أسوأ مرحلةٍ تمرّ على المدينة خصوصاً، والمحافظة عموماً، منذ قيام الثورة. وتكفي متابعة قراءة ما يكتبونه على مواقع التواصل، أو مواصلة الاستماع إلى أحاديثهم، بعد الجملة الأولى والشتيمة التفسيرية؛ لكشف حقيقة المرارة التي تفور من حلوقهم.

لا يمكن مغادرة دير الزور بسهولة، ويستحيل البقاء فيها.. هذه هي المعادلة الحالية.

ليس كلّ من يوجد في الجورة والقصور من سكانها أصلاً. هم، في غالبيتهم، من سكان الأحياء التي كانت محرّرةً، قبل أن تستولي عليها داعش قادمةً من الريف الشرقيّ الذي اجتاحته بعتادٍ وأسلحةٍ أميركيةٍ -يا للمفارقة- قادمةً من الموصل وتكريت. وهذا سيكون النزوح الرابع لهم منذ آب 2011، حين اجتاحت دبابات الأسد (القيادة التي ينتظرها المحافظ) المدينة لأوّل مرّةٍ، مفتتحةً أربع سنواتٍ من القصف اليوميّ حوّل أحياء كاملةً الى ركامٍ يستحيل حتى على أهلها أن يميّزوا ملامح بيوتهم وسطه.

هؤلاء البشر –السوريون– باتوا مجرّد أرقامٍ هامشيةٍ، لا يكلّف أحدٌ في العالم خارج سوريا نفسه عناء إحصائهم. وهم ليسوا محظوظين –حالهم حال الغالبية العظمى من مواطنيهم– بما يكفي لتثار قضية حصارهم، وتجويعهم، وقتلهم، وذبحهم، وجلدهم، وصلبهم على أعمدة الطرقات، وتعذيبهم حتى الموت، من النظام وداعش... ازدواجية المجرمين وتعاونهم لا تعني مزيداً من التعاطف، ولا شيئاً من الاكثراث.

تحتاج، كي تنجو من دير الزور التي تحاصرها داعش إلى "أراضي داعش"، في مفارقةٍ سورياليةٍ مرهقةٍ وقاتلةٍ في بعض الأحيان، إلى توفير مجموعة شروط؛ منها أن يوافق ممثلو النظام –المحافظ وربعه في هذه الحالة- على خروجك، وأن تدفع ثمن رحلتك لضباط النظام كبار شبّيحته كي يسمحوا لك بالعبور الى مناطق سيطرة داعش عبر حاجز عياش الذي يفترض أنه خط دفاعهم الأوّل عن المدينة ضد داعش.

ستحتاج أيضاً إلى التأكد من أن اسمك ليس مدرجاً على قوائم المخابرات كعضوٍ سابقٍ في الجيش الحرّ، أو مؤيدٍ له، أو متظاهرٍ نشطٍ في بدايات الثورة، لأنك ستجد قوائم شبيهةً لدى داعش تنتظرك في معدان –مدينة صغيرة تفصل الحدود الإدارية لمحافظتي الدير والرقة-. وسيكون عليك الخضوع، في هذه الحالة، إمّا لعقوباتٍ يمليها مزاج أمير الحسبة التونسيّ، أو لـ"دورةٍ شرعيةٍ" في مكانٍ سرّيّ... لنقل إنه شيءٌ يشبه دورة الإعداد العقائديّ التي ينظمها النظام للمعتقلين العائدين إلى "حضن الوطن"، لكنك في هذه الحالة ستعود إلى "حضن داعش". وسيجد اسمك، وبقية أسماء زملائك، الطريق إلى إحصائيات تورّم داعش المتواصلة، التي تثير الرعب في بلاد العالم السعيدة؛ البلاد التي لم تكن –للصدفة المحضة- تعرف أنّك قادمٌ من مدينةٍ عليك أن تدفع فيها رشوةً هائلةً لتخرج من حصارها نحو من يحاصرها.

الديريون وحدهم لديهم ميزة خيار شراء صفة التشدّد وإلا فإنهم سيموتون من الجوع.

يشكّل الحصار عموماً، وفي كلّ مكانٍ وزمان، تجارةً مربحةً للبعض. ولا تخرج الدير عن هذا السياق المرير، بدايةً بتعاونٍ مكشوفٍ بين طرفي الحصار لتمرير مؤنٍ لا تكفي لسدّ الرمق بأسعارٍ فلكية، وليس انتهاءً برمي النازحين الناجين من ملزمة الموت جوعاً وقصفاً على أرصفة دمشق، ومنعهم من دخول مناطق الساحل حتى وإن كان لهم فيها أقارب أو مكان سكن... آلية الطرد والتهجير المتوازية تلك لا تترك كثيراً من خيارات النزوح التي، في معظمها، ترمي المدنيين نحو مناطق سيطرة داعش مجدّداً.

يجب الاعتراف هنا أن الحياة تحت سيطرة داعش تبدو أسهل من حيث توافر المواد الغذائية، ورخص ثمنها، قياساً إلى مناطق سيطرة النظام –حتى تلك غير المحاصرة منها- لكن في مقابل تحوّل التعذيب حتى الموت في سجون الأسد إلى تعذيبٍ باستخدام الموت في ساحات ذبح وصلب داعش.

ما يحدث في دير الزور هو، ببساطةٍ تقارب شتيمةً بذيئةً، وضع "بوستيج" اسمه داعش على رأس مذبحةٍ اسمها الأسد.