ما الذي بقي من حزب البعث؟

لاقى خبر حلّ القيادة القومية لحزب البعث "العربيّ الاشتراكيّ" اهتماماً قليلاً جداً، يمكن القول إنه اقتصر على "أعدائه" إذا كرّرنا الكلمة التي استخدمها أحد الشعراء في بيتٍ بليغٍ في دلالته على المزاج الفاشيّ لأنصاره:

"أنا بعثٌ وليمُت أعداؤه... عربيٌّ عربيٌّ عربيّْ".

 

قرأت بيت الشعر هذا، للمرّة الأولى، على جدار أحد معامل منطقة الليرمون عند مدخل حلب الشماليّ المؤدّي إلى طريق أعزاز – عفرين. تساءلتُ حينها، وكنتُ يافعاً في المرحلة الإعدادية، ترى هل هذا الكلام موجّهٌ إلى الكرد؟ هذا ما استشعرته من كلمة الأعداء في الشطر الأوّل، معطوفاً على التوكيد المثلث على العروبة في الشطر الثاني.

واجهني "البعث" للمرّة الثانية في أوّل المرحلة الثانوية، حين دخل نائب مدير المدرسة إلى الصفّ، ووزّع طلبات انتسابٍ إلى منظمة "اتحاد شبيبة الثورة" التابعة للحزب الحاكم على جميع الطلاب. لم أكن أملك، في ذلك الوقت، ثقافةً سياسية، لكني رفضت تقديم طلب الانتساب من منطلقٍ أخلاقيٍّ، إذا جاز التعبير، فقط لأنه حزب السلطة، إضافةً إلى منبتي الكرديّ الذي لا يتناسب مع الانضمام إلى حزبٍ شديد العروبة، "عربيٍّ عربيٍّ عربيّْ!" وفقاً لبيت الشعر المذكور. أما الدلالة الأخلاقية لرفض ما هو سلطويٌّ فقد كانت مناخاً عاماً في المدرسة (منتصف السبعينات)، وكان قلةٌ من طلاب صفي يحضرون اجتماعات منظمة الشبيبة فيستحقون وصمة "المكولك" من الطلاب. وهي تعني باللهجة الحلبية "المداهن، المتملق، المنافق، الانتهازي". لنلاحظ، عرضاً، أن أحداً لم يكن يأخذ انتماء غيره إلى هذا الحزب على محملٍ عقائديّ، بل يفهمه كنفاقٍ وتمسّحٍ بالسلطة لتحقيق مكاسب فقط.

أتذكر طالباً آخر رفض الانتساب، وتلقى صفعةً قويةً من نائب المدير، إرهاباً له وانتقاماً على موقفه الشجاع. كان هذا الطالب متديناً حاول، طوال أشهرٍ، هدايتي ثم يئس من ذلك وقاطعني تماماً. أما غالبية الطلاب فقد تصرفوا كحلبيةٍ أصيلين إزاء هذا الموقف، فملأوا استمارات طلب الانتساب، تجنباً للأذى المحتمل، لكنهم لم يحضروا أيّ اجتماع.

تغيّر هذا الجو "العاديّ" تماماً بعد بداية التمرّد العسكريّ للطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، وقرار المواجهة العنيفة الذي اتخذه النظام، فشنّ حرب اسئصالٍ ضدّهم كانت، في الواقع، حرباً شاملة على المجتمع السوريّ. منذ تلك اللحظة الفارقة في تاريخ سوريا تردّى وضع الحزب أكثر مما كان أصلاً، ليتحوّل إلى مجرّد جهازٍ أيديولوجيٍّ – قمعيٍّ في خدمة السلطة المطلقة لحافظ الأسد. وقد لعب حزب "العمال والفلاحين وصغار الكسبة" هذا دوراً مهماً في إطلاق حملة تأليه الأسد، لتتولى أجهزة المخابرات، التي باتت لها اليد الطولى في الحكم، أمر ترهيب الناس وإرغامهم على "المكولكة" لا للحزب "القائد للدولة والمجتمع" وفقاً للدستور الدائم الذي فرضه في العام 1972، بل لـ"الأب القائد" الذي ملأت صوره المرعبة (وفي مرحلةٍ لاحقةٍ تماثيله الطوطمية) كلّ مكان، على مثال البيغ براذر في رواية 1984 لجورج أورويل الذي يقول للمرء في كلّ لحظةٍ: "أنا أراك!"، في تقليد لصورة الله الذي يرى كلّ عباده وما يفعلون أو يقولون في كلّ لحظة.

بموازاة هذا المسار الداخليّ، تحوّل البعد القوميّ لحزب البعث إلى سعي الأسد إلى بناء هيمنةٍ إقليميةٍ تتجاوز الحدود السورية، في لبنان والعراق والأردن وفلسطين، بواسطة البلطجة أساساً، ليفرض نفسه كلاعبٍ إقليميٍّ لا يمكن تجاهله. الأمر الذي لاقى تفهماً من "المجتمع الدوليّ" بأميركييه وروسه وأوروبييه، كما من الدول العربية التي خضعت لبلطجته حيناً واستخدمتها لتحقيق بعض أهدافها حيناً.

يمكن القول إن حزب البعث الذي انقلب عليه الأسد في العام 1970 وزجّ بقادته في السجون، قد أعيد تشكيله في عهد "الحركة التصحيحية" على مبدأ "المكولكة" ليتضخّم في عضويته بصورةٍ مبالغٍ فيها. وبعد حرب مطلع الثمانينات الدامية تدهور حال الحزب أكثر ليتحوّل إلى ملحقٍ بالأجهزة الأمنية لتكريس عبادة الدكتاتور. بعد وفاة المؤسّس في حزيران 2000 وتوريث الحكم لابنه بشار، سيطر شعور بالمرارة على أوساطٍ واسعةٍ في القواعد الشعبية الدنيا للحزب بسبب فجور "الليبرالية" العائلية الدكتاتورية التي تصدّرت المشهد بوقاحةٍ في صورة رامي مخلوف وأمثاله من القرايب والمحاسيب الجشعين.

كثيرٌ من هذه القواعد المفقرة سينخرط، منذ آذار 2011، في الثورة الشعبية، وبصورةٍ خاصّةٍ في الضواحي المهمّشة للمدن الكبرى ذات التركيبة السكانية السنّية. ليبقى الحزب مجرد هياكل سلطويةٍ لا تستند إلى أيّ قاعدةٍ شعبية، باستثناء البيئة العلوية التي تماسكت حول النظام حين شعرت أنه يواجه خطراً وجودياً حقيقياً. وهذه قاعدةٌ لنظام الأسد السلاليّ أكثر من كونها قاعدةً للحزب الذي انتهى دوره "القياديّ" المزعوم للدولة والمجتمع، في العام 2012، بجرّة قلم، حين حاول النظام أن يتظاهر بتحقيق بعض "الإصلاحات" فغيّر الدستور وأزال منه البند المتعلق بتكريس تلك القيادة، كما أصدر قانوناً للأحزاب، رخّص بموجبه لـ"أحزاب" جديدة، وألغى محكمة أمن الدولة لينشئ بدلاً منها "محكمة الإرهاب" في المبنى نفسه وبالقضاة أنفسهم، مع مجازر قضائيةٍ أكثر من السابق.

القرار الجديد الذي حُلّت بموجبه القيادة القومية ربما يعني إطلاق رصاصة الرحمة على كيانٍ نافقٍ لم يعد ذي نفعٍ للطغمة الحاكمة التي حوّلت سوريا من لاعبٍ إقليميٍٍّّ مهمٍّ ذي دورٍ وظيفيٍّ إلى ساحةٍ للصراعات الإقليمية والدولية، في مرحلةٍ أولى، وإلى الانضواء تحت وصاية الاحتلال الروسيّ المباشر، في مرحلةٍ ثانية، على ما تفيد الاتفاقية الموقّعة مع روسيا، الصيف الماضي، التي تمنح هذه الأخيرة ولايةً عسكريةً مفتوحةً على الأراضي والأجواء السورية، وتمنح قوّاتها العسكرية حصانةً من أيّ مساءلةٍ على أفعالها. من الواقعية، والحال هذه، التخلي عن البعد القوميّ للحزب العروبيّ المتشدّد في عروبته، وخاصّةً بعد تحوّل العروبة إلى شتيمةٍ على ألسنة البيئة الموالية للنظام بسبب ما تعتبره من تآمر دولٍ عربيةٍ رئيسيةٍ ضدّه، السعودية وقطر أساساً. فقد أصبحوا يستخدمون كلمة "عربان" التحقيرية للدلالة على خصوم النظام من الدول العربية.

بمقابل هذا التحقير للعروبة صعدت باطّرادٍ موجة تمجيدٍ لإيران وبيادقها من القوى الشيعية في الدول العربية، بلغت على لسان الممثل دريد لحام، قبل أيام، إضفاء صفات القداسة على وليّ الفقيه علي خامنئي. للعلم يتحدّر فنان القصر هذا من تقليدٍ سياسيٍّ قوميٍّ سوريٍّ، مثله في ذلك مثل آل مخلوف، استمرّت خصومته للبعث عقوداً، لينتهي أخيراً إلى التحالف مع النظام منذ تسعينات القرن الماضي، ودخل "الجبهة الوطنية التقدمية" في السنوات المبكرة من حكم بشار الكيماويّ. لكن هذه الطلعة الجديدة من دريد لحام قد لا تكون مجرّد تحية عرفانٍ وامتنانٍ بسبب دعم إيران للنظام الذي أعلن مبكراً انحيازه وولاءه له، بقدر ما تعبّر عن عودةٍ إلى أصوله الشيعية.

إنه مصيرٌ مملوءٌ بالعبر لحزبٍ طبع الحياة السياسية في المشرق العربيّ ببصمته لعقود، وتربت على ثقافته القومية أجيالٌ من السوريين والعراقيين. فانتهى فرعه العراقيّ بسقوط نظام صدام حسين على يد قوّات الاحتلال الأميركيّ في العام 2003، لتؤدّي سياسة استئصال البعث وحلّ الجيش الموالي لصدام حسين إلى التحاق كثيرٍ من قادة الأوّل وضباط الثاني من بقاياه، بتنظيم داعش الذي سيعلن "دولته الإسلامية" من الموصل بعد سيطرته على أراضٍ شاسعةٍ في العراق وسوريا. يمكن القول، من هذا المنظور، إن داعش هو امتداد الفرع العراقيّ "السنّيّ" لحزب ميشيل عفلق، وإن كان لا يقتصر عليه. في حين انتهى الفرع السوريّ "العلويّ" إلى ولاءٍ مذهبيٍّ إيرانيٍّ – شيعيّ. لقد تحلل الفرع السوريّ قبل سقوط النظام، وخرجت منه معظم عضويته السنّية بعد انطلاق الثورة. وربما يتخفف منه النظام نهائياً، أي بإعلان حله، إذا أتيحت له أيّ فرصةٍ للمقايضة به على بقائه.