مأزق «فتح الشام» ومحنتها الآتية

خلال الأسبوعين الأخيرين كانت جبهة فتح الشام عرضةً لخمس هجمات جوّيةٍ -أميركيةٍ على الأرجح- في محافظة إدلب. قتلت طائراتٌ دون طيارٍ، في أربعٍ منها، قادةً من مراتب رفيعةٍ في الجبهة، فيما استهدفت الخامسة مقرّاً اتضح أنه سجن، وأودت بحياة 20 من سجنائه.

لم تتوقف الهجمات الأميركية ضد جبهة النصرة منذ الأشهر الأخيرة لعام 2014. وكانت هذه الهجمات، على وتيرتها المنخفضة سابقاً، مستوعبةً في سياق الملاحقة المتأنية من الأميركيين لفروع تنظيم القاعدة. لكن ارتفاع وتيرتها اليوم، وبعيد توقيع الهدنة التي استثنت فتح الشام ولم يكن للأميركيين دورٌ في رعايتها، بين فصائل من المعارضة المسلحة ونظام الأسد، يلقي أسئلةً تصعب الإجابة عنها في خصوص تصاعد الملاحقة المفاجئ في هذا التوقيت؛ في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما، وقبل أن يأتي ترامب بسياسةٍ جديدةٍ ستكون شديدة القسوة بلا شك على جبهة فتح الشام.

تبدو الوسائل المتاحة للجبهة اليوم في التصدي لهجمات الجوّ أو تجنّبها محدودةً للغاية. وبالرغم من بعض الإجراءات التي أقدمت عليها، مثل إخلاء بعض المقرّات وتشديد الاحتياطات الأمنية وتعميم إرشاداتٍ خاصّةٍ على بعض القادة للتمويه على الطائرات دون طيار؛ تبدو فتح الشام اليوم مفتقرةً إلى هامش المناورة. وصار جلياً أن الطريقة الوحيدة كي تفلت من الهجمات هي أن تحلّ نفسها، وهذا ما يستحيل فعله من جانبها، فلا يبقى في متناول اليد سوى التكيّف مع الهجمات والحؤول دون أن تسبب استنزافاً للأفراد النوعيين في صفوفها. فيما يبدو أنها لا تفكر، في المدى المنظور على الأقل، في ردات فعلٍ انتقاميةٍ خارج الحدود.

كان تحييد التحالف الدوليّ، والأميركيين على وجه الخصوص، أحد الأهداف المبتغاة من وراء فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة وتغيير اسمها الى فتح الشام. وكان أحد الأهداف أيضاً مشروعُ اندماجها المتعثر أو الفاشل بحركة أحرار الشام وفصائل أخرى مقبولةٍ من المجتمع الدوليّ. ومثلما سيحرج الاندماج، لو تحقق، الولايات المتحدة وحلفاءها إن أرادت استئناف عداوتها لفتح الشام بعده، ويجعلهم في مواجهةٍ مباشرةٍ مع القطاع الأوسع من المقاتلين السوريين المعارضين للنظام؛ فإن فشله المتزامن مع تصاعد الضربات ضد الجبهة اليوم يحرج رافضيه من حركة أحرار الشام، ويظهرهم في موقع المتخاذل عن نصرة فئةٍ مجاهدةٍ تقاتل النظام، ما قد يضعف مكانتهم الجهادية لدى بعض مؤيدي الحركة وفي صفوفها أيضاً. ومع مواصلة قوات الأسد وحلفائها الطائفيين خرق الهدنة لتحقيق انتصاراتٍ موضعيةٍ هامةٍ على جبهات قتالٍ عدة، تتبدد المكاسب التي أحرزتها براغماتية أحرار الشام، وربما تُقرأ على أنها تفريطٌ في حقوقٍ لا يُفرَّط فيها، وعلى أنها تبعيةٌ ذليلةٌ للأطراف الإقليمية المنشغلة بمصالحها المباشرة قبل أيّ مصلحةٍ أخرى.

من جهةٍ أخرى تساعد الهجمات الأميركية، إن ظلت على تصاعدها الحالي، في تمتين صفوف فتح الشام وتوحيد تياراتها على موقفٍ عامٍّ أشد تصلباً، وتساعد أيضاً في ترسيخ الصورة المثالية التي تحاول الجبهة رسمها لنفسها لدى الأكثرية السنّية غير المعنيّة اليوم سوى بهزيمة النظام ووقف عدوانه المريع عليها بوصفها الحامل الرئيسيّ للثورة. وسيجلب دور الضحية التي تدافع عن أهل السنّة، الذي تحاول فتح الشام لعبه في ساحة تنافسها مع تنظيم داعش -المحتكر الأول لهذا الدور- من طرف، ومع الفصائل الجهادية الأخرى من طرفٍ آخر، المزيد من المؤيدين والأتباع، لا سيما مع تصاعد الشكوك في حقيقة الموقف الدوليّ من النظام. وهي شكوكٌ تؤكدها كل يومٍ مظلوميةٌ جديدةٌ تضاف الى قائمة مظالم طويلة.

بدرجةٍ أقل من داعش استثمرت جبهة النصرة ثم فتح الشام في صراع الطوائف. ربما نبع ذلك من بعض حكمةٍ وبعد نظرٍ تحلى بهما صانعو برامجها، وربما جاء نتيجة هشاشة عودٍ واضطراب رؤى لم تنضج بعد. لكن الاستفراد بها بالطريقة والتوقيت اللذين تريدهما الدول الكبرى الفاعلة في الشأن السوريّ، مع ترك حزب الله اللبنانيّ -المصنّف على قائمة الإرهاب- والميليشيات الشيعية متعدّدة الجنسيات تواصل أدوارها القتالية ضد «السنّة المظلومين»، سيجعل من هذا الاستثمار واحداً من الأساليب الرئيسية التي تعتمدها فتح الشام في كفاحها من أجل البقاء والتجذر عميقاً في بنية المجتمعات السنّية في سورية.