لا شواهد لقبورهم... وبعضهم بلا قبور

مقبرة في مدينة الباب -عدسة الكاتب

في عيد الفطر الماضي، وخلال الأسابيع الأخيرة قبل عيد الأضحى اليوم، تحدث القائمون على معبري باب السلامة وجرابلس الحدوديين مع تركيا عن عشرات آلاف اللاجئين السوريين الذين اجتازوا المعبرين في طريقهم إلى المناطق المحررة لقضاء عطلة العيد في مدن اعزاز والباب وجرابلس وغيرها من القرى والبلدات.

تقول تقديرات إن 10% من هؤلاء لن يرجعوا إلى تركيا. كثير من العائدين وجدوا بيوتهم مدمرة، لكن العائدين إلى مدينة الباب -التي تحررت من سيطرة داعش في شباط الماضي- لم يتوقعوا أن يجدوا قبور ذويهم بلا شواهد يميزون بها قبراً عن آخر مجاور.

فراس الشاوية شاب ثلاثيني، أب لطفل، ومعتقل سابق في سجون داعش بمدينة الباب، يرتدي لباساً جديداً ويسرّح شعره بطريقة مبالغ فيها كي «يقهر التنظيم» كما يقول: «عيد بدون دواعش بالباب، فكيف لي أن لا أفرح!».

في العيد الماضي لم يجد فراس قبر جده وجدته عندما ذهب يزورهما بعد الصلاة كما هي العادة: «توفت ستي عام 2005. ما قدرت ميّز قبرها. داعش هدمت شواهد القبور بدون ما تبلغ حدا. ضليت ساعة أدور على قبر ستي وأدقق بالحجار والمسافات حتى لقيته». بعد العثور على القبر غرس فراس جذع شجرة إلى جانبه كعلامة. ومن بين القبور والشواهد التي خربتها داعش كان لقبور شهداء الجيش الحر النصيب الأكبر، لمحو آثارهم نهائياً.

في المقبرة الشمالية، في ضواحي المدينة، وفي مقابرها الأخرى، يفتش الناس محنيي الظهور صباح العيد في أكوام الحجارة عن قبور ذويهم. قد تساعد البقايا هنا وهناك، وقد يساعد اكتشاف قبر ما في التعرف على القبر المجاور. وكذلك تساعد شواهد محطمة في التقاط جزءٍ من الاسم أو الكنية او التاريخ للدلالة على القبور.

في مطلع عام 2014، وبعد معارك طاحنة ضد فصائل الجيش الحر، فرض التنظيم سيطرته على الباب التي دخلت في عهده مرحلة جديدة أعدم خلالها مئات الأشخاص في الشوارع والساحات، وكان لمقاتلي الحر وحواضنهم الاجتماعية النصيب الأكبر من أعمال القتل والترهيب. لم تسلّم جثث مقاتلي الحر الذين أعدمتهم داعش إلى ذويهم، ودفنت في أمكنة مجهولة وكيفما اتفق. وفي حالات كثيرة، وبعد أن تصلب الجثة لساعات أو لأيام، كانت ترمى في مكبات النفايات بمنطقة الحدث شمال الباب.

حاول عدي كسار تتبع مصير جثة عمه مقاتل الجيش الحر، والذي أعدمته داعش ثم صلبته على دوار المنطقة في المدينة، لكن الدواعش اكتشفوا محاولاته واعتقلوه أياماً قبل أن يطلقوا سراحه.

خلال عهد داعش كانت دورياتها تحرس مكب النفايات في معظم الأوقات لمنع ذوي الضحايا من البحث عن جثثهم، بل وزرعت جواسيس بزيّ عمال نظافة للمراقبة والابلاغ عن محاولات تنقيب الأهالي في المكبات بحثاً عن الجثث. يقول كسار إن رجلاً يعرفه دفع مبلغاً مالياً لعامل نظافة مقابل تسهيل عملية البحث، وحذره العامل أن يحرص على السر لأن «الجواسيس بمكب النفايات أكثر من النفايات نفسها»، حسب عدي.

بعد تحرير الباب باشرت منظومة الدفاع المدني أعمالها برفع الأنقاض وفتح الطرق وإزالة السواتر الترابية ونزع الألغام، ولكن كانت للمنظومة مهمة أخرى هي دفن جثث قتلى من السكان المدنيين، وحتى لعناصر من داعش تركت جثثهم قبيل انسحابها. كما أضيفت إلى الدفاع المدني وظيفة أخرى هي البحث عن جثث الضحايا في الحفر الجماعية والفردية ومكبات النفايات وآبار المياه.

يقول أبو سليم، وهو عضو إحدى فرق الدفاع المدني العاملة في الباب، إنهم عثروا على عشرات الجثث مجهولة الهوية في الآبار والمزارع القريبة. ويروي قصة امرأة تعرفت على ابنها بدلالة لباسه بعد انتشال الجثة من بئر. تواجه الدفاع المدني، في مساعدة الأهالي على العثور على جثث قتلاهم، عقبات كثيرة، أهمها التغيرات التي لحقت بالضحايا وتحلل جثثهم وضياع معالمهم، خاصة «إن أكلت منها الكلاب» حسبما يقول أبو سليم!