قصة جريح

عدسة سامي | خاص عين المدينة

لا توجد أرقام دقيقة لعدد الإصابات التي تسبب ضرراً دائماً، جراء الحرب التي تشنها قوات الأسد في المدن والمناطق السورية. هناك تقديرات فقط تتحدث عن رقم جاوز المائة ألف إصابة من هذا النوع، تتنوع من فقدان الأطراف إلى الشلل الجزئي أو الكامل وغيرها. ولا يبدو أن ملف الجرحى قد لاقى، رغم أهميته الكبرى، أي اهتمام جدي من المؤسسات والهيئات ذات الاختصاص. محمد جبارة (30) عاماً، ابن مدينة موحسن، واحد من الجرحى. قاتل بضراوة في معارك دير الزور. فقد ذراعه اليمنى في معركة تحرير مقر الهجانة، إثر إصابته بشظايا قذيفة دبابة، وتضررت ذراعه الأخرى بأضرار بالغة.
وفي رحلة الجريح محمد تلك وقصته، تكتمل العناصر المؤلمة في حكايا الجرحى السوريين. فبعد إسعاف أولي في أحد المشافي الميدانية،

نقل هذا الشاب إلى خارج المدينة بمغامرة على قارب صغير عبر نهر الفرات. ومن ثم أجريت له عمليات جراحية أخرى. وبمساعدة الأصدقاء تمكن محمد من السفر إلى تركيا لإجراء عملية جراحية في ذراعه.
بلهجة واثقة يتحدث محمد عن إصابته بالقول: في يوم السبت 23/6/2012 أصبت بمعركة الهجانة في دير الزور، وأسعفت إلى مشفى ميداني هناك، وبذل الجميع كل ما يستطيعون لإنقاذ حياتي، ثم نقلت إلى خارج المدينة لإكمال العلاج. شعرت بإحباط عندما قال الطبيب إنه لا أمل لي في استعادة ذراعي. ولكنني كنت أقول منذ البداية: "الحمد لله فذراعي سبقتني إلى الجنة". أتمنى لو أن إصابتي كانت أخف قليلاً، لكنت استطعت الخروج مع رفاقي إلى جبهات القتال. لكن هذا ما جرى والحمد لله على كل حال.
كانت أياماً صعبة. كنت عاجزاً عن القيام بأي شيء بعد أن فقدت ذراعاً وتحطمت ذراعي الأخرى. زوجتي كانت تطعمني وتسقيني وتأخذني إلى الحمام، ويسارع ابني لمساعدتي في أبسط الحركات. راودتني الآمال عندما قرر أصدقائي نقلي إلى تركيا، وفعلاً تحسنت حالتي عموماً بعد أن أجرى الأطباء هناك عملية بتر ثانية ليدي من أجل تركيب كف صناعية، ولكنني ما زلت بحاجة لإجراء عمليات جراحية لذراعي الثانية لاستئصال الشظايا ثم زراعة مفصل، قبل أن تبدأ مرحلة العلاج الفيزيائي. والحمد لله أستطيع الآن أن أمسك بكأس ماء وأشرب دون مساعدة من أحد.
استطاع محمد أن يعثر على عمل في محل ألبسة في مدينته موحسن، للإنفاق على عائلته المكونة من زوجة وأطفال أربعة. وهو يظهر امتناناً كبيراً للأصدقاء والأقارب الذين وقفوا معه في محنته.
ليس سهلاً أن يفقد المرء يده ويستأنف حياته كأن شيئاً لم يكن، وخاصة لمقاتل كانت يده جزءاً من البندقية التي تحملها، فلا بد من إرادة وإصرار على ذلك. ويبدو أن محمداً استطاع أن يتجاوز إصابته بعزيمة ورغبة بالحياة، وتمكن من التكيف مع وضعه الجديد، ولم يترك نفسه فريسة لليأس أو الانحراف أو السخط ، وهذا احتمال وارد جداً في قصص الجرحى، وخاصة مع الأوضاع المزرية والمأساوية التي يعيشها هؤلاء ابتداءً من العلاج وانتهاءً بحاجة المصاب إلى المساعدة في شؤون المعيشة بعده. وتتهرب معظم هيئات المعارضة السورية من التصدي لهذه المشكلة، وتكتفي بعبارات تعاطف عامة وشكلية، وتسارع الى تقديم أعذارها، وهي موضوعية في أكثرها، فمشكلة الجرحى وعلاجهم كبيرة فعلاً. لكن هذا لا يعفيهم من القيام ببعض الإجراءات النافعة في هذا الباب. فعلى سبيل المثال تستطيع هيئة كبرى مثل الائتلاف افتتاح مكتب متخصص بشؤون الجرحى، يجري أبحاثاً ميدانية وإحصائية تعتمد على البيانات المتوفرة لدى ناشطي القطاع الطبي على الأرض، لتخفف من حالة الفوضى والعشوائية والإهمال في هذا الملف، وتقدم على الأقل إحصاءات جدية تعبر عن أرقام الإصابات التي تسبب عاهة دائمة وأنواعها وتقييم احتياجات المصابين ومستلزمات علاجهم.