قصة الخروج: أرض الخلافة التي يدفع الناس الأموال للهروب منها

أمام آخر حاجزٍ لتنظيم الدولة الإسلامية تقف سيارة نقلٍ زراعيةٌ محمّلة بالقش. يذهب عنصرٌ من الحاجز للنظر في أوراق السائق، ويتجه آخر إلى صندوقها الخلفيّ ليتفحص الحمولة باستعمال سيخٍ معدنيٍّ ليتأكد من خلوّها من بشرٍ يحاولون الهرب. في هذه اللحظة يتكوّر بضعة شبابٍ داخل القش، قاطعين أنفاسهم، مترقبين. يخز السيخ رجل أصغرهم، فتىً في الثالثة عشرة من عمره، لكن الجالس إلى جانبه كان على استعدادٍ لمثل ذلك الموقف فكمّم فم الطفل الموجوع.

لا تنتمي هذه الحادثة إلى فيلمٍ مصريٍّ ولا إلى روايةٍ فلسطينيةٍ بل حدثت بالفعل. أبطالها من شباب دير الزور، يعيشون اليوم في تركيا أو في الأراضي التي يسيطر عليها الجيش الحرّ والفصائل الأخرى. وقد أقدموا على تلك المغامرة بعد أن ساءت الأوضاع المادية والأمنية بسبب تصاعد تضييق التنظيم الخناق على الأهالي بالتزامن مع فقدانه المزيد من الأراضي، ومنعه سكانها المناطق التي يسيطر عليها من الخروج منها منذ بداية العام الجاري، والهروب المستمرّ لعناصره.

يبثّ التنظيم فكرة (دار الإسلام ودار الكفر) لإقناع الأهالي أنها سبب منعهم من الخروج من أراضيه، لكن ذلك لم يقنع الأغلبية. يقول أحد سكان الميادين: "الناس صارت تطلع بكثرة، والدواعش قام يشوفون أنو إذا ظلت الهجرة والخروج من البلد ما رح يظل حدا". ويستثني التنظيم من قرار المنع التجار الذين يحملون (ورقة زكاة)، وهي إيصالٌ من ديوان الزكاة يثبت أن حامله سدّد ما عليه من ضرائب. ويسلك الذين يحاولون الهروب من أراضي التنظيم الطرق الرئيسية من دير الزور حتى يصلوا إلى إحدى قرى حلب على خطوط الاشتباك مع الجيش الحرّ، وفيها يبقون لمدّةٍ تطول أو تقصر بحسب الوضع الأمنيّ، ومنها يتسللون مشياً لمسافة خمسة كيلومتراتٍ للوصول إلى إحدى القرى التي يسيطر عليها الحرّ. وفي هذه المسافة قد يتعرّض الهاربون لعدّة مفاجآت، ربما تكون سيارات الأمنيين التي تراقب الحدود، أو الألغام التي زرعها التنظيم هناك، الأمر الذي أودى بحياة أكثر من شخصٍ في الفترة الأخيرة.

في مدينة البوكمال، التي ألحقها التنظيم بمناطق عراقيةٍ أطلق عليها اسم "ولاية الفرات"، واتخذ منها مكاناً للكثير من مقرّاته، يرى الكثير من السكان أن منع الخروج جاء للاحتفاظ بالأهالي كدروعٍ بشرية. ويواجه أهالي المدينة العديد من الصعوبات في سبيل الهروب. يقول أحدهم: "اللي يطلع بس الشباب، العيل ما تقدر تطلع" لصعوبة تحركها. وتتنقل سيارات التهريب من مدينةٍ إلى أخرى، أو عبر القرى، حتى الوصول إلى ريف حلب. ويرى الأهالي أن العراقيين أفسدوا عليهم طرق التهريب، لأن التنظيم يمنع دخول الأخيرين إلى الأراضي السورية عبر البوكمال دون موافقة والي "ولاية الفرات"، وفي ظلّ هذا القرار يسهل القبض على أهالي البوكمال في أيّ مكانٍ من مناطق سيطرة التنظيم في سوريا بالنظر إلى بطاقاتهم الشخصية أو لهجتهم الخاصّة، بوصفهم أبناء "ولاية الفرات". ويتحدث الكثيرون في المدينة عن عراقيين اتفقوا مع سائقين لتهريبهم، ليتبين لاحقاً أنهم يعملون لصالح أمنيي التنظيم لمعرفة المهرّبين.

يذكر أن تنظيم الدولة قطع الطريق في وجه الخارجين من أراضيه عدّة مرّاتٍ قبل نهاية العام الفائت، بسبب الاشتباكات بين قوّاته والجيش الحرّ في محيط مدينة مارع. ورغم أن دعاة التنظيم وخطباءه حضوا الأهالي في ذلك الوقت على التزام البقاء في ما أسموه "أرض الإسلام"، وهي المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وعدم الهجرة إلى "بلاد الكفر"، وهي كلّ الأراضي خارج سيطرته، لكنه لم يمنعهم وقتها من الخروج. بينما تفيد شهاداتٌ أنه منع تدريجياً التوجه من أراضيه إلى الحدود التركية مباشرةً، كما كان يفعل الخارجون من مدينة منبج في السابق. كما تعذر الخروج عبر الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد في عين العرب/كوباني بسبب اشتراط القوات الكردية وجود كفيلٍ للشخص الذي يمرّ بتلك الأراضي.

ويفيد البعض أن تكلفة الوصول إلى إعزاز تختلف من مكانٍ إلى آخر، وتبدأ من 300 دولارٍ للشخص الواحد في الميادين و450 في البوكمال، فصاعداً. وتختلف العقوبة التي يوقعها أمنيو التنظيم بالمهرّب بحسب قادتهم ومنطقتهم، وتتراوح بين الاحتجاز لعدّة أيامٍ وغرامة 250 ألف ليرةٍ سورية، لتصل إلى مصادرة السيارة وتغييب صاحبها في السجون لمدّةٍ غير معروفة.