في ريف حلب الشماليّ: قوّة الفصائل المتحالفة ضدّ "داعش" وضعفها

في نهاية العام الماضي أسّست عشرةٌ من فصائل الجيش الحرّ في ريف حلب الشماليّ منظومة عملٍ عسكريٍّ مشتركٍ ضد "داعش"، عرفت باسم "غرفة عمليات حوار كلس"، نسبةً إلى البلدة الحدودية المحرّرة من التنظيم. انضم إلى الغرفة فور تأسيسها كلٌّ من فيلق الشام، وفرقة السلطان مراد، وأحرار الشرقية، والجبهة الشامية، ولواء أحرار سورية، ولواء صقور الجبل، واللواء (51)، ولواء الشمال، والفرقة الشمالية مشاة، وجيش الشام؛ والتحق بها بعد شهرين كلٌّ من لواء الحمزة واللواء (99).

تولى الجانب التركيّ مسؤولية إمداد الفصائل المقاتلة لـ"داعش" بالذخيرة والسلاح بأصنافه المتوسطة والخفيفة، مثل مضادات الدروع (لاو؛ كونكورس؛ كورنيت)، والرشاشات بعياراتٍ مختلفة، والبنادق... مع السيارات رباعية الدفع والوقود وكلّ ما يلزم من معدّاتٍ وتجهيزاتٍ لوجستية. وتنفذ الطائرات الحربية التركية هجماتٍ مساندةً لهجوم الفصائل على الأرض، كما يشارك سلاح المدفعية التركيّ من مرابضه على الحدود في عمليات القصف التمهيديّ السابقة للهجمات، إضافةً إلى مشاركة طائراتٍ تركيةٍ صغيرةٍ بدون طيار في رصد ومتابعة مواقع وتحركات التنظيم. وبعد انقطاع الطرق بين ريف حلب الشماليّ ومحافظة إدلب، نتيجة الهجوم الأخير الذي شنته قوّات الأسد وميليشيا ypg و"جيش الثوار" على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الحرّ في هذا الريف؛ سهلت الحكومة التركية حركة المقاتلين المشاركين في المعارك ضد "داعش" من وإلى حلب وإدلب، عبر معبري باب السلامة وباب الهوى، مروراً بالأراضي التركية.

منذ التأسيس، وخلال الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، تمكنت القوة المشتركة للفصائل المنضوية في غرفة العمليات هذه من تحرير سلسلة قرى (إيكدة، حوار كلس، حرجلة، قرة مزرعة، قرة كوبري، الخربة، دوديان، حكة، مريغل) المحاذية للحدود التركية على مسافة (15) كم من الغرب إلى الشرق، ومسافة (3-4.5) كم من الشمال إلى الجنوب. وترتبت على عملية التحرير هذه جملةٌ من النتائج المادية والمعنوية يمكن تحديدها بما يلي:

  • القضاء على تهديد "داعش" لمدينة إعزاز وبوابتها الحدودية (باب السلامة)، وهي الرئة الوحيدة المتبقية لفصائل الجيش الحرّ في ريف حلب الشماليّ.
  • تهيئة مساحاتٍ جغرافيةٍ كافيةٍ نسبياً في الأراضي المحرّرة حديثاً لتكون قاعدةً للفصائل المحاربة للتنظيم ومنطلقاً لهجماتها ضده.
  • تقليص المساحة الواقعة تحت سيطرة "داعش" على الحدود التركية، وتهديد المزايا التي تمنحها هذه السيطرة للتنظيم.
  • تقديم أدلةٍ عمليةٍ للمجتمع الدوليّ، وللدول الصديقة للشعب السوريّ، على فعالية الشراكة مع فصائل الجيش الحرّ في محاربة "داعش" على الأقل.
  • الانتقال بفصائل الجيش الحرّ من حالة الدفاع عن النفس أمام "داعش" إلى الهجوم وتولي زمام المبادرة في الحرب معها.
  • تحطيم حالة التفوّق المعنويّ المتوهمة لدى عناصر التنظيم، وتكذيب دعايته القائمة -في واحدٍ من أساليبها- على الاستخفاف بمقاتلي الجيش الحرّ الذين أبدوا عزيمةً لافتةً في المواجهات، على عكس ما يردّده شرعيو "داعش" دوماً من أن "الصحوات نفَسها قصير أمام الدولة"، منتقصين من قدرة مقاتلي الحرّ على الصمود في المعارك.

لكن، وبالرغم من المنجزات التي حققتها القوة المشتركة لغرفة "حوار كلس"، ظهرت ثغراتٌ واضحةٌ في أداء هذه القوة وبنيتها، مما أدّى إلى تعثرٍ جزئيٍّ في استئناف خطة تحرير الشريط الحدوديّ، بل واستطاعت "داعش"، أكثر من مرّةٍ، استرداد بعض القرى بُعيد تحريرها بوقتٍ قصير. واعتمدت في دفاعها عن مناطق سيطرتها أسلوب امتصاص الضغط والانسحاب أمام القوّات المهاجمة، ثم الكرّ ما إن تختفي طائرات الحلفاء، بتنفيذ هجماتٍ معاكسةٍ لاسترداد ما تمّت خسارته. وتحرص "داعش" قبل كل انسحابٍ على تفخيخ كل ما يمكنها تفخيخه، لتكبيد المهاجمين أكبر قدرٍ من الخسائر في الأرواح، إذ تقوم بتفخيخ الأبنية والمنشآت والطرق والسواتر الترابية. وتواترت شهاداتٌ لمقاتلين شاركوا في المعارك عن مبالغةٍ من طرف "داعش" في هذا الجانب، فقد عُثر في كثيرٍ من منازل بعض القرى المحرّرة على ثلاث أو أربع عبواتٍ ناسفةٍ في المنزل الواحد. وعمدت "داعش" أيضاً إلى خفض عدد العناصر المرابطين في القرى على خطوط التماسّ، وتقليص عدد الآليات وقطع السلاح، مما يتيح لها سهولة وسرعة الحركة أثناء الانسحاب، فيما تنضمّ مجموعاتٌ جديدةٌ من العناصر إلى المعركة وقت الهجوم. وما زال سلاح "داعش" المفضل في الانتحاريين بسياراتٍ مفخخةٍ فعالاً في الحدّ من قدرة الخصوم.

وتدفع الرمزية الكبيرة لبلدة دابق، وهي إحدى البلدات الواقعة تحت سيطرة التنظيم في ريف حلب الشماليّ، بعناصره -وخاصّةً المهاجرين منهم- إلى إبداء قدرٍ كبيرٍ من الإصرار في المواجهات مع الجيش الحرّ. وتستند رمزية دابق إلى حديثٍ نبويٍّ، أخرجه مسلم في صحيحه، يقول إن معركةً فاصلةً بين الروم وجيشٍ من المسلمين "من خيار أهل الأرض" ستدور فيها. ويعتقد "الدواعش" بالطبع أنهم الفئة المقصودة بهذا الحديث. وتؤكد النسبة المرتفعة للقتلى في صفوفهم الأثر المعنويّ الكبير لدابق في دفع المزيد منهم إلى الموت. اذ يقدّر قادةٌ في صفوف القوّة المشتركة عدد المهاجرين الذين لقوا حتفهم خلال أسبوعين فقط عقب معركة بلدة الراعي بأكثر من 200 قتيل. وسيؤدي تحرير دابق حتماً إلى تحطيم هذا الاعتقاد وزعزعة إيمان هؤلاء الحمقى والمخدوعين بأنهم يقاتلون دفاعاً عن مفهومٍ جغرافيٍّ مستقبليٍّ مقدس.

وعلى الجانب الآخر عانت القوة المشتركة من تفاوتٍ في الإرادة القتالية بين فصائلها، إذ تبدي تلك التي يشكل أغلبيتها المقاتلون المتحدرون من مناطق تحتلها "داعش" إصراراً أكبر في القتال من الفصائل الأخرى في الغرفة. كما تتفاوت الخبرات القتالية بين فصيلٍ وآخر. ومما لا شك فيه أن الآمال المعقودة على تأسيس غرفة عمليات "حوار كلس" كانت أكبر من النتائج المتحققة حتى الآن، إذ تكرّرت معظم العيوب التي تعاني منها غرف عمليات المعارضة المسلحة من ناحية التنظيم والتخطيط والتماسك. ورغم العدد الكبير لمجموع المقاتلين المنتمين إلى الفصائل المشكلة للقوة المشتركة، والذي يزيد على الألفي مقاتل -حسبما يقوله كلّ فصيلٍ عن أعداد المقاتلين في صفوفه- أظهرت مجريات المعارك افتقاراً نسبياً في أعداد المقاتلين المدرّبين على الاقتحام، أو ما بات يعرف محلياً بـ"الانغماسيين"، ذوي الدور الفعال والرئيسيّ في المواجهات مع عدوٍّ من نوع "داعش". كما برزت الحاجة، بدرجةٍ كبيرة، إلى ضرورة بناء سلاح هندسةٍ فعالٍ ومدرّبٍ لدى القوّة المشتركة لتفكيك الألغام والعبوات الناسفة التي يزرعها التنظيم على خطوط دفاعه وفي القرى والبلدات التي ينسحب منها.

يمكن تطوير القدرة القتالية والكفاءة لدى عناصر القوة المشتركة لـ"غرفة عمليات حوار كلس" إلى حدٍّ كبير، ويمكن أن تحرّر هذه القوّة المزيد من المساحات في ريف حلب الشماليّ والشماليّ الشرقيّ، لكن الثغرات التي تخلقها بنية غرف العمليات من ناحية كونها مظلةً جامعةً لقوىً منفصلةٍ ومتحالفة، قد تتنافس في ما بينها وقد تتفاوت عزائمها وقدراتها القتالية، ستظل مؤثرةً ما لم تتطور هذه المظلة نحو قوّةٍ موحّدةٍ في جيشٍ منظمٍ ومحترفٍ ومنضبط. ومن ناحيةٍ أخرى تجب مراعاة الدوافع المباشرة للمقاتلين، والانتباه إلى حقيقة أن أبناء المناطق التي يحتلها التنظيم هم الأشد حماسةً وعزماً وقدرةً على التضحية في حربه، وخبرةً فيها.