في الطريق إلى الجبيلة

عدسة أحمد | خاص عين المدينة

يخرج الشبان تباعاً حاملين بنادقهم ويقفون على باب المقرّ بانتظار قدوم قائد الكتيبة الذي يسكن في حيٍّ بعيدٍ مع عائلته. يطول الانتظار قليلاً فتبدأ النبرات تحتدّ: "خلونا نمشي يا شباب وبعدين يلحقنا". يجيب آخر: "جاي بالمطور ولازم نستناه لحتى يدخّل المطور على المقرّ مشان ما ينباق".

قبل أن يكتمل الجدال يحضر أبو محمّد. يلقي السلام فيجيبه الآخرون بعتابٍ لا يخلو من الفكاهة، فيقول أحدهم: "إيمت نمت أسألك بالله؟"، فيجيب: "مثل العادة، بس كنت تعبان". تتكاثر الأسئلة الماكرة: "ليش تعبان؟ إن شا الله خير". يشعل سيجارته مع ابتسامةٍ خجولةٍ ويردّ: "بس تتزوجون تعرفون ليش". يعلو صوت الضحك ليقطعه ردّ أحدهم: "يلا يا شباب يكفي تأخير. جيش بشار يستنانا". تمتلك هذه الكتيبة سيارةً واحدةً تحوّلت إلى كتلةٍ متفحمةٍ بعد إصابتها بقذيفة، لذا عليهم أن يذهبوا سيراً على الأقدام. يخيم الهدوء على مسيرهم، فيما يحدّق أحدهم في شرفةٍ مدمّرةٍ ويسأل بدهشة: "متى حصل ذلك؟!". يجيبه آخر: "ربما ليلة الأمس..". يردّ أبو محمد ببراءة طفل: "طيب ليش؟ والله حرام. هذا البيت شكون بيه تا ينقصف"... يردف أحدهم: "شباب مثل الورد راحت، ما وقفت عالبيوت". يخيم الصمت مجدداً ويستمرّ المسير.

على خطّ النار

يستلم المقاتلون نوبتهم من كتيبةٍ أخرى... يسأل أبو محمّد هل من جديد فيجيبونه بأنهم سمعوا صوت الحفر قريباً عند النقطة الثالثة.. يوصونه أن تنهي كتيبته حفر الخندق الاعتراضيّ بالسرعة القصوى فيردّ قائلاً: "على الله"، ويخاطب جنوده: "يا شباب بدنا همة. الله يستر، يمكن الجيش يفجر بناية النقطة الثالثة...". يصيح أحدهم بحماس: "تخسى شواربهم.. جاهزيلهم".
ينتشر المقاتلون في القطاع، البعض يرصد حركة قوّات الأسد، والبعض الآخر يقوم بحفر الخندق، والبقية يقومون بملء التراب في الأكياس لجعلها متاريس دفاعية.
أبو محمّد قلقٌ بعض الشئ... فإن حصل التفجير ستكشف قناصات الأسد مساحاتٍ واسعةً من القطاع، ولذلك يقوم بحفر الخندق بنفسه، دون أن تظهر عليه علامات التعب أو الملل.
يحين أذان الظهر. ترتفع الجاهزية بشكل منقطع النظير، فيقوم البعض بالتكبير، وتعمّ الضجة في القطاع. والسبب أن عناصر الجيش النظاميّ ينتهزون الفرصة ليقوموا بالتسلل، وقد حصل ذلك عدّة مراتٍ في السابق، فالكثير من المقاتلين ينشغلون بالصلاة بعد الأذان مباشرةً، مما يفسح المجال للجيش لمباغتة المقاتلين.

الماسونيّ

أطلق رفاقه عليه هذا اللقب لأنه يعزو قوة النظام إلى الماسونية التي تقف وراءه.. مقاتلٌ صغير السن لا يعرف الهدوء. أنهى دارسته الثانوية والتحق بصفوف الجيش الحرّ... يضفي الماسونيّ المرح في الكتيبة، فأحاديثه الطريفة، ومخاطبته لعناصر الخصم من وراء الطلاقية، والبخّ على الجدران؛ كلها جعلت منه شخصاً شهيراً، حتى أن جنود الأسد المرابطين على الطرف الآخر من الجبهة يسألون عنه ويفتقدونه حين يغيب.
يبرّر الماسوني سلوكه المرح بقوله: "إننا نعيش روتيناً مميتاً، فحياتنا تلخّصت في عدّة كلمات.. طلاقية.. نوبة.. قطاع... إلخ، لذلك لا بدّ من المزاح والفكاهة لكي نستطيع الاستمرار".
الوقت يمضي وحفر الخندق شارف على الانتهاء. يخرج أبو محمّد ليأخذ قسطاً من الراحة. يجلس مع رفاقه لشرب الشاي. يتجادلون في أمر المدنيين الذين يدخلون القطاع لإخراج حاجياتهم من البيوت.. مؤيدٌ هنا ومعارضٌ هناك... ينتقلون إلى الحديث عن مؤتمر جنيف والسياسة وأخبار المعارك في عموم سوريا... ينقطع كل هذا فجأة، حيث تندلع كتلةٌ رهيبةٌ من النار مع ضغطٍ هائل، يوقع "عين المدينة"، وهي الأقرب لهذه المفاجأة غير السارّة. إنه صاروخٌ موجّه، أطلقته قوّات الأسد على الجزء المكشوف من القطاع. تندلع المواجهة لعدة دقائقٍ برصاصٍ عشوائيٍّ من الطرفين ثم تهدأ. يتفقد أبو محمّد الجميع ثم يحمد الله على سلامتهم. لم يصب أحدٌ سوى كاميرا "عين المدينة"، والمتراس الذي تهدّمت أجزاءٌ منه.
بعد المغيب تأتي كتيبةٌ أخرى لتتسلم نوبتها. يقدّم لهم أبو محمّد تقريراً عن أحداث اليوم، وآخر تطورات القطاع، قبل أن يغادر ورفاقه بانتظار يومٍ جديد.