طريق نواف البشير إلى محيميدة ..

تُشكّل المنطقة الممتدة من قرية الحسينيّة شمالي مدينة ديرالزور إلى قرية الطابيّة في جنوبها الشرقي حالة استثنائية في خريطة السيطرة على المحافظة الشرقية، فمنذ تقاسم ترِكة تنظيم داعش بين "قوات سوريا الديمقراطية (قسد)" المدعومة من قوات التحالف الدولي، وقوات نظام الأسد المدعومة من روسيا وإيران، يشكل نهر الفرات خطاً فاصلاً بين منطقتي سيطرة الجانبين.

ففي الوقت الذي تمكّن فيه نظام الأسد من السيطرة على المناطق في الضفة الجنوبية لنهر الفرات (الشامية)، مدت قوات قسد سيطرتها على المناطق في الضفة الشمالية للنهر (الجزيرة)، باستثناء الجيب الصغير المذكور والذي كانت قوات الأسد أسرع إليه. وعلى ما يبدو لا تقتصر الحالة الاستثنائية للجيب السابق على الجهة المسيطرة عليه، فقد شهدت الفترة السابقة ما يشبه انتفاضة شعبية لأبنائه النازحين في مناطق قسد ضد نظام الأسد والميليشيات الإيرانية.

يتواجد أبناء عشيرة البكّارة إلى جانب أبناء عشائر أخرى في منطقة الجيب، ويفاخر أبناؤها بانتسابهم إلى الإمام محمد الباقر، أحد الأئمة الاثني عشر الذين يقدسهم الشيعة، ما جعل العشيرة تحظى باهتمام الإيرانيين منذ انطلاق مشروع "الهلال الشيعي" إبّان نجاح ثورة الخميني في سبعينيات القرن الماضي، وقد تمكنوا بداية من تشييع قسم من أهالي قرية حطلة في ريف ديرالزور من عشيرة البوبدران التي تنتسب للبكارة. وهناك ينتشر اليوم مقاتلو لواء الباقر المشكل من بعض أبناء عشيرة البكارة التي تمكن "شيخها" نواف البشير -ليس كما يعرِّفه كثر من أبنائها اليوم- من تجنيدهم في صفوف الميليشيا الجديدة التابعة للمشيئة الإيرانية.

لم يكن ليخطر على بال نواف وهو يغادر تركيا مطلع عام 2017 إلى دمشق تاركاً صفوف الثورة السورية إلى "حضن الوطن"، أنه سيشهد مرة أخرى جموعاً ثائرة تطأ بأقدامها صور القائدين (الأب وابنه) هاتفة للحرية وإسقاط النظام، فقرار التحول عن المعارضة لم يكن أمراً سهلاً على البشير، فهو الذي اتخذ منذ مطلع التسعينيات خطاً معارضاً للنظام السوري، بعد منعه من مغادرة البلاد على أثر كلمة ألقاها في مؤتمر للوحدويين الاشتراكيين في منزل نديم المصري في مدينة صحنايا، متحدثاً فيه عن الديمقراطية وقانون الأحزاب والحريات العامة، الأمر الذي أفشل كل محاولاته اللاحقة للعودة إلى مجلس الشعب رغم كثافة التصويت له في دائرته كما يذكر أبناء المنطقة.

لم تكن صفة المعارض أمراً مألوفاً في سوريا قبل 2011، فالحكم في سوريا لنظام شموليّ بكل ما للكلمة من معنى، لذلك لم يكن مقبولاً أن يتخطى فيها بعض "المثقفين المتحمسين" أو "الشخصيات الاعتبارية" خطوط النظام الحمراء بما عرف باسم ربيع دمشق، فتم اعتقالهم وإيداعهم السجون، ما جعل مؤتمر المعارضة السورية في مضافة نواف البشير في قرية المحيميدة أواخر 2004، والذي عرف لاحقاً بإعلان ديرالزور- حالة تحد واضحة للنظام السوري. ثم وفي العام التالي شارك البشير في إعلان دمشق والذي أصبح أحد أعضاء هيئته الرئاسية بعد ذلك، قبل أن تصل الأمور إلى نهاية ربيع دمشق نفسها، لكن وضع البشير كشيخ عشيرة وشعبيته الواسعة آنذاك حَمَته من مصير كمصير رفاقه، بل وسمحت له بأن يحاول إنشاء حزب سياسي مستقل لم يعش أكثر من أشهر قليلة.

عصفت الثورة السورية بصفوف المعارضة التقليدية التي اختار بعض رموزها التزام الصمت تجاه ما يحدث ترفعاً عن "الحالة الشعبية غير المنضبطة" أو "السقف المرتفع للمطالب"، على عكس البشير الذي انخرط في صفوفها منذ البداية، فكان يزور بيوت عزاء الشهداء ويخطب بالمتظاهرين المحتشدين في ساحة المدلجي في مدينة ديرالزور، فضلاً عن ظهوره على عدد من محطات التلفزة المهتمة بتغطية الثورة مطالباً الأسد بالتنحي، وحتى عند زجّ النظام بالجيش لقمع الثوار وظهور حالة التسلح وانكفاء عدد كبير من رموز المعارضة التقليدية عن تأييد الثورة، استمر البشير في موقفه المنتمي لها مارّاً بمراحلها كلها، فانتقل إلى تركيا منضمّاً إلى كل التشكيلات السياسية للمعارضة السورية تقريباً، ما منحه مكانة خاصة لدى الثوار من أبناء المنطقة الشرقية وقد قارنوه بشيوخ العشائر الأخرى الذين اختار كثير منهم تأييد نظام الأسد فيما التزم بعضهم الصمت إيثاراً للسلامة.

لكن المكانة الخاصة تلك لم تكن كافية للبشير الذي تحول من شيخ "فعليّ" لإحدى أكبر عشائر سوريا، إلى قائد رمزي لا يملك أن يفصل في نزاع بسيط بين مجموعتين محليّتين من حملة السلاح؛ فالتحول إلى الحالة المسلحة في الشرق السوري وتحرير مساحات واسعة سمح لقادة الفصائل بأن يمارسوا دور حكام محليين لمناطق انتشار تشكيلاتهم، مختزلين الحالة العشائرية والسلطة الفعلية في شخوصهم. ولعل هذا ما دفع البشير في غير مجلس خاص أن يعرب عن تأييده لتنظيم داعش قبل أن يتمدد.

تواصل التنظيم مع البشير –بحسب مصادر محلية– داعياً إياه للعودة إلى ديرالزور شيخاً لعشيرته وأميراً من أمراء التنظيم، لكن من غير الممكن التأكد سبب رفض البشير للعرض، أكان خوفه من غدر التنظيم أم أنّ خبرته الطويلة وتواصلاته أعطته فكرة عن مستقبل التنظيم؟ الذي استولى لاحقاً على منزل البشير ونهب محتوياته وصادر استثماراته في مسقط رأسه، ليجد نواف نفسه مرة أخرى شيخاً لعشيرة لا يملك أن يكون قربها، وأحد أعضاء المعارضة السياسية التي اختفت ميزات أفرادها عموماُ، وعانى فيها البشير من التهميش خصوصاً منذ أواسط عام 2013 بسبب خلافه مع جماعة الإخوان المسلمين.

لذلك وعندما بدأ التوجه الدولي مطلع 2015 ينمو باتجاه إنهاء تنظيم داعش، وجدها البشير فرصة مواتية للعمل على مشروع سُمّي حينها "الجبهة الشرقية"، بحيث يؤَمّن المقاتلين من أبناء العشائر في المنطقة، ويتولى التحالف الدولي تدريبهم في قواعده في تركيا، ومن ثم تنسيق دخولهم إلى سوريا عبر تل أبيض للقتال بغطاء جوي ودعم لوجستي وعسكري. وبالفعل قام البشير بإرسال دفعة أولى متواضعة ثم أتبعها بدفعة مكونة من 360 مقاتلاً، إلا أن التحالف الدولي رفض 200 منهم بحجة عدم موافقة الجانب التركي عليهم، قبل أن يرفع يده عن المشروع، ليقدم البشير استقالته من المشروع ويجد نفسه مرة أخرى شيخاً بلا مشيخة ولا طريق إلى مضافته في ديرالزور.

أواخر عام 2015 دخلت روسيا بثقلها لقتال تشكيلات الثورة السورية، مقلصة مساحة سيطرة الثوار في عموم سوريا وفارضة واقعاً عسكرياً وسياسياً جديداً في الملف السوري، انتهى بالتحالف الثلاثي (الروسي الإيراني التركي) الذي ألغى تدريجياً الأدوار المحلية في الملف السوري لحساب الدول "الضامنة" الثلاث، الذين بدؤوا بخوض حروبهم. ومع تبين أن الأتراك لن يصلوا إلى أبعد من منبج شرقاً، توجه عدد كبير من قيادات الجيش السوري الحر من أبناء ديرالزور إلى الانضمام لقوات (قسد) أملاً بالوصول معها إلى أراضيهم، وتفضيلاً لها على الانضمام إلى قوات الأسد "عدو الثورة السورية الأول".

لكن هذا الخيار لم يكن وارداً عند نواف.. فبعد فشل تجربته الأولى مع الأمريكان في مشروع الجبهة الشرقية بات من الصعب أن يدخل معهم في مشروع آخر، فضلاً عن اعتماد الأمريكان في مشروعهم الجديد بشكل أساسي على قوات كردية متعصبة لقوميتها. ومع غياب مشروع تركي باتجاه الشرق، وسيطرة التحالف التركي الروسي الإيراني على معظم "الأطراف المحلية" لدرجة اعتبار البعض قيام التحالف إعلان "انتهاء الثورة"، بات السؤال الوحيد المطروح أمام المعارض القديم: (من أين يبدأ الطريق إلى محيميدة.. روسيا أم إيران؟!)

لا أحد يعلم على وجه الدقة متى بدأ التواصل بين نواف والإيرانيين، لكنه في نهاية 2016 غادر تركيا باتجاه روسيا ومنها إلى إيران لعدة أيام، قبل أن يرجع مرة أخرى إلى تركيا ويغادر مع عائلته إلى دمشق معلناً ولاءه للنظام السوري ومشاركاً عبر لواء الباقر في السيطرة على ديرالزور مع ميليشيات إيران التي بدا واضحاُ ميل البشير إليها على حساب الروس. لكن آماله بالوصول إلى محيميدة التي تضم مضافته باءت بالفشل، حيث كانت قوات قسد أسرع إليها، ليجد نواف نفسه مرة أخرى بعيداً عن المناطق التي تنتشر فيها عشيرته، التي خسر احترام أبنائها المنتمين للثورة والذين أصدر عشرات من وجهائهم وناشطيهم بياناً أعلنوا فيه تبرُّؤَهم منه.

 وفي محاولاته للوصول إلى قريته، وقف مع لواء الباقر ضد عدد –ليس بالقليل– من أبناء عشيرته المنتمين لقوات قسد، والتي قتل ابنه في إحدى المواجهات معها مطلع عام 2018.

واليوم يعاين نواف حراكاً بنفس شعارات ومطالب الثورة الأولى التي انحاز إليها.. لكن من مكان مختلف؛ ففي الأولى كان شيخ عشيرة ومعارضاً واسع الشعبية هتف الناس باسمه لتأييده إياهم، وسَمُّوا أحد أيام تظاهرهم باسم الوفاء له أيام اعتقاله في النصف الثاني من 2011.. بينما اليوم هو أداة من أدوات النظام، وقائد ميليشيا محلية يراها أفراد عشيرته نفسهم خطراً عليهم وعلى هويتهم.