سوق العمل في الميادين (2 من 2) قنبلةٌ موقوتةٌ في ظلّ تنظيم الدولة

تحوي مدينة الميادين، التي حدّدها تنظيم الدولة الإسلامية عاصمةً إداريةً لمحافظة دير الزور (ولاية الخير)، نازحين من دير الزور وحلب وإدلب وحمص وغيرها. ونظرياً يعدّ سوق المدينة والعمل لدى التنظيم مصدري الرزق الوحيدين للسكان حالياً. ورغم الارتفاع النسبيّ لأجور العاملين مع التنظيم إلا أنه لم يجد ضالته بين الأهالي.

العمل لدى التنظيم
اعتمد التنظيم في تسيير الشؤون المحلية، وعلى أكثر من مستوى، على موظفي الحكومة السابقين والحاليين وكوادر المجالس المحلية سابقاً. لكنه راح يعتمد على المتطوّعين وعمال السخرة من المعتقلين من أبناء الميادين، أو زوّارها الصباحيين من أبناء ريفها، بعد التسرّب التدريجيّ للكثير من إداريّي وفنيي وعمال القطاع العامّ نحو تركيا، بسبب إساءة معاملتهم وتهميشهم والتضييق عليهم، بحسب ما أفاد بعضهم. الأمر الذي لم يسمح به التنظيم في حالة موظفي النفط الحكوميين، فهو يمنحهم وضعاً خاصّاً بحدٍّ أدنى من الرقابة، رغم أنه يمنع باقي الموظفين من التوجّه إلى مناطق سيطرة النظام لتقاضي رواتبهم.

لمس التنظيم فقر الجماعات العشائرية المحلية التي احتوته بالكوادر العلمية والمهنية، ما دفعه إلى نشر الإعلانات المتكرّرة عن حاجته إلى موظفين باختصاصاتٍ متنوّعة (الطبيّ والإداريّ والمكتبيّ والحرفيّ..). وقد استجاب البعض في الميادين لتلك الدعوات، بسبب عدم اشتراط البيعة عليهم من جهة، ولخسارة الكثيرين سبل عيشهم السابقة، خاصّةً من النازحين الذين تعدّ مهنهم رأسمالهم الوحيد، من جهةٍ أخرى.

وما زال التنظيم ينشر إعلاناته عن حاجته إلى المتخصّصين، ولكنه راح يوجّه تلك الاعلانات إلى الخارج في الفترة الأخيرة طلباً للمهاجرين، ما قد يدلّ على ضعف إقبال الأهالي مؤخراً على العمل معه، وقلة خبراتهم من جهةٍ أخرى. ليبقى العمل العسكريّ هو الباب المفتوح للجميع، بل يعمل التنظيم على الدفع إليه بالتضييق على الشباب وإجبارهم على حضور الدورات الشرعية لأكثر من مرّةٍ بحججٍ مختلقة.

بسبب تجاربه السابقة في أكثر من منطقة، يبدو حرص التنظيم على البقاء وخوفه من المقاومة المستقبلية هما ما دفعه إلى فرض حزَمٍ من الإجراءات الأمنية الاستباقية تسمح له بمراقبة التجمّعات السكانية الخاضعة له، والحرص على منعهم من الاتصال بقوىً خارجيةٍ أو إعادة تنظيم صفوفهم خارج بنية (الولاء والبراء-المحبة والكره) التي يفترضها ويجعلها أساساً للمواطنة. ويعتمد في ذلك، بشكلٍ أساسيٍّ، على شبكاتٍ صغيرةٍ من الجواسيس (المؤمنين أو "الرصّاد" بحسب بعض الأمراء). فرض تطبيق هذه الإجراءات حياةً عامةً جديدةً يتأقلم معها عناصر التنظيم بسهولةٍ أكبر من غيرهم، مما يسمح لهم بخوض غمارها وتفادي مصاعبها، الأمر الذي يمهد لحصر الأرباح من التنظيم بعناصره في ظلّ المحسوبية -المقبولة في البيئة المحلية وفي قانون التنظيم على حدٍّ سواء- ويجعل من تهرّب المقرّبين منه عن أداء المستحقات المفروضة (الزكاة) والاستئثار بالفوائد أمراً يتحدث عنه جميع الأهالي اليوم.

بالمقابل، ما زال آخرون يعانون من تعقيدات الحياة الجديدة على أكثر من صعيد. يقول عابد (تاجر ألبسةٍ رجالية): "يريدونا نسكّر ونهجّ من هالبلد بأيّ طريقة، كلّ يوم يطلعولنا موديل ممنوع نبيعه". ويقدّر عابد تراجع مردود تجارته بـ80 في المئة بسبب الصعوبات التي تواجهه، من نوع منع بيع الكثير من أنواع الألبسة، وبالتالي تكديسها في المستودع، وكذلك الإجراءات التي يضطرّ إليها، كالتزكية والموافقة الخطية، عند الذهاب لشراء البضائع.

الأسعار
أسهمت عوامل عدّةٌ في انخفاضٍ واستقرارٍ جزئيين لأسعار المواد الغذائية منذ منتصف 2015، كتوقف إخراج الخضار الموسمية من ريف دير الزور باتجاه الحسكة والعراق بسبب المعارك وقتها، واستمرار نشاط حركة التجارة القادمة من تركيا عبر حلب في ما يخصّ المواد الغذائية المصنّعة كالزيوت وغيرها. على أن ذلك لم يستمرّ طويلاً، بسبب انتهاء الخضروات الصيفية وقطع طريق حلب نتيجة المعارك الدائرة. ما انعكس على أسعار المواد ولكن باتجاهين مختلفين، فقد انخفضت أسعار المحروقات في العموم، باستثناء الغاز المنزليّ (يتراوح سعر الأسطوانة بين 8000 و50011 ليرةٍ سورية) والبنزين النظاميّ (الذي وصل سعره إلى 600 ليرة)، بينما يتراوح سعر البنزين المفروز بين 150 و200 ليرة (يباع البرميل، بحسب جودته، بـ33 ألف ليرةٍ فصاعداً)، أما المازوت فيباع بـ80 ليرة تقريباً (البرميل بـ17 ألف ليرة)، والكاز بـ105 ليرة (البرميل بـ23 ألف ليرة).

في الجهة المقابلة بدأت أسعار المواد الغذائية بالارتفاع، واختفى بعضها من السوق لصعوبة إدخالها إلى الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم. فبحسب أحد تجّار الجملة تخرج شاحنات الخضار من دمشق لتمرّ بمدينة الضمير (نقل النظام نقطة الجمارك من التنف إلى الضمير منذ منتصف 2015) حيث تفرض عليها نقطة الجمارك رسوماً قدرها 400 ألف ليرةٍ عن كلّ شاحنة، ثم تسلك طريق التنف لقلة حواجز التنظيم فيه (بحسب أحد السائقين) لتصل إلى حصيبة في العراق ومنها إلى البوكمال فالميادين.

الأجور
لم تكن أجور العمال في مدينة الميادين تلتزم بحدٍّ أدنى. وكانت تبدأ من 150 ليرةً يومياً (وأدنى من ذلك في بعض الحالات، كأجور الأطفال و"الحوّيسة"، وهم شغيلةٌ ليس لهم عملٌ محدّدٌ يلتزمون بطلبات العمال الأكبر سناً أو الأكثر خبرة) مقابل عشر ساعات عملٍ تقريباً، تتفاوت بحسب المهنة وأحوال الطقس ومواسم الحصاد. وهي الظروف ذاتها التي تخضع لها ساعات العمل اليوم، بالإضافة إلى ظروف الحرب وإجراءات تنظيم الدولة من إجبار السوق على الإغلاق وقت الصلاة إلى فرض حظر التجوّل في فتراتٍ متقطعة.

وتبدأ الأجور اليوم من 450 ليرةً تقريباً، أي ثلاثة أضعاف الأجر اليوميّ في السابق. وبالمقارنة مع سعر صرف الدولار اليوم يساوي أجر العامل 1,04 دولار، بينما كان يساوي 3,3 دولار في السابق. وبالقياس إلى سعر ربطة الخبز الذي يبدأ اليوم في الميادين بـ250 ليرةً، أي أكثر من 16 ضعف سعرها القديم، يظهر إلى أيّ مدىً وصلت الأحوال المعيشية في المدينة. ورغم أن أجور الصنّاع المهرة والمتخصّصين بالأطعمة الغربية تتعدّى 2500 ليرةٍ يومياً إلا أنهم مهدّدون بفقدان أعمالهم بالمنافسة المستمرّة مع الانحسار الذي يشهده السوق.

أنس (معلم بيتزا) كان يتقاضى 3000 ليرةٍ حتى قبل شهر. وكان أخواه يعملان معه في المطعم، يتقاضى أحدهما 1750 ليرة والآخر 500، يعيلان بها العائلة. أما أنس فقد انفصل عن أهله بعد زواجه منذ سنة. واليوم لا يطمح أن يجد مكاناً يتقاضى فيه نفس أجره القديم، وهو يبحث عن عملٍ بعد إغلاق المطعم الذي كان يعمل فيه بعد أن اقتنع صاحبه أن السوق لن يتحسن بعد التدهور الذي يشهده منذ أشهر.

الصمّام
في ظلّ توجيه التنظيم كلّ طاقاته نحو (المجهود الحربي)، وانسياق عناصره خلف المكاسب الشخصية والعائلية أو العشائرية، وهروب الرساميل المستمرّ، وتحويل الكثير من المقاتلين أموالهم إلى الخارج؛ في ظلّ ذلك وغيره تبدو مدينة الميادين على حدود مجاعةٍ وشيكةٍ أو انتفاضة جياع. لكن الأمر ليس كذلك تماماً، فالمنظمات الإغاثية التي منعها التنظيم من العمل انصاعت ظاهرياً لقراراته وحلّت نفسها إلا أن قسماً منها ما زال يعمل خفيةً في تقديم الإعانات المالية للعوائل المحتاجة، كما أن التحويلات المالية من العاملين في الخليج أو في دول الجوار لذويهم لم تتوقف، تضاف إليها مبالغ متواضعةٌ بدأت تتسرّب من اللاجئين في ألمانيا وغيرها، فضلاً عن حركة التنقل بين الميادين وريفها الأحسن حالاً بغرض التجارة أو البحث عن الخدمات والتواصل الاجتماعيّ، ثم مساعدات التنظيم المتقطعة (الزكاة) لمرّاتٍ لم تصل حتى الآن إلى عدد أصابع اليد الواحدة؛ كلّ ذلك يأتي بمثابة تنفيسٍ لضغط البطالة والعوز وشحّ الأجور.

في المقابل ينتصب شبح قسوة التنظيم أمام أعين الأهالي ليتركهم ضحايا آثار الحرب والتعطش للسلطة وسوء الإدارة والتقدير. كما أنه يمنعهم من تنظيم صفوفهم بشكلٍ سلميٍّ، وبالتالي الانخراط في الحياة العامة خارج قوانينه وشروطه. ولذلك تبدو تجمعات العاطلين عن العمل ملتبسةً أو ملتحمةً بتلك الخارجة على رؤية التنظيم أو الأخلاق الاجتماعية، كمهرّبي الدخان وبائعيه أو لصوص الدراجات الهوائية الناشطين بشكلٍ كبيرٍ في المدينة.

في أعين التنظيم المسيطر قد لا تنبئ أوضاع الميادين بالكثير، إلا أن أحاديث الأهالي اليومية تتنبّأ بالفوضى العارمة التي ستعصف بمدينتهم عند أوّل شرارة.