رغم الحذر والعزلة.. الجنود الأتراك في إدلب يحتكون بالمجتمع المحلي

تحيط النقاط العسكرية التركية في إدلب نفسها بالكثير من الحذر، ويمتنع عناصرها من التجول في المناطق التي تنتشر فيها، لكن طول تمركزها على أطراف المدن والقرى جعل من اختلاط الجنود بالمجتمع المحلي أمراً لا مفر منه، ويأخذ أشكالاً متنوعة أحدها بيع قسم من مخصصات الإطعام وشراء احتياجات متنوعة بما فيها الطعام بدلاً منه، أو تأمين خدمات متنوعة، أو معرفة جغرافيا أماكن الانتشار والمحيط، أو مجرد الصداقة.

مع دخوله حيز التنفيذ، شكل اتفاق مناطق خفض التصعيد الموقع عليه في آستانة بين تركيا وروسيا وإيران، بداية توافد الأرتال التركية إلى إدلب في تشرين الأول من العام 2017، ثم الشروع بإقامة عشرات نقاط المراقبة في العام التالي، مهمتها المراقبة والحفاظ على اتفاق خفض التصعيد ثم اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في آذار 2020. وتنتشر النقاط التركية على شكل طوق يحيط مناطق المعارضة في إدلب خاصة، وبشكل رئيسي جنوبي الطريق الدولي بين حلب واللاذقية (M4).

يعيش العساكر الأتراك في نقاطهم العسكرية التي تتنوع بحجمها بين الصغيرة والكبيرة، حذرين معزولين عن المجتمع المحلي في إدلب، لكن طول السنوات ساهم في خرق العزلة عبر بيع وشراء الأطعمة والاحتياجات والخدمات من المراكز المدنية القريبة، لكن عبر وسطاء محليين من المنطقة.

أبو رامي (30 عاماً) وسيط من مدينة بنش يعمل على تأمين حاجيات العساكر الأتراك في النقطة التركية القريبة من مدينته، يوضح أن عمله كان يعتمد في بداية الأمر على تأمين حاجيات بسيطة نظراً لكون الجنود الأتراك لم يكونوا على علم بالفترة التي سيبقون فيها في النقاط، لذلك كانوا يكتفون بالإمدادات التي تأتيهم عبر الأرتال من تركيا.

ويضيف "هذا لا يعني أنهم كانوا مقيدي الحركة، ولكن بعد مقتل عدة جنود أتراك قبل ثلاث سنوات، يبدو أن أوامر قد صدرت بمنع مغادرة الجنود خارج النقاط. ومع طول المدة أصبح المجندون مضطرين لجلب حاجيات أكثر تنوعاً من طعام وشراب ومستلزمات شخصية، ما تطلب وجود وسطاء بين النقاط التركية والأسواق المحلية".

ومع أن أبو رامي أكد أن بعض الجنود يجلبون قسماً من حاجياتهم من بلدهم أثناء عمليات التبديل، إلا أنه ولطول الفترة الفاصلة بين عمليات التبديل كانت أغلبية الجنود تعتمد على الأسواق السورية عبر الوسطاء، وذلك لسرعة وصولها وانخفاض ثمنها مقارنةً مع الأسواق التركية.

عمل أبو رامي في ما مضى مقاتلاً في "فيلق الشام" الذي كان على احتكاك مباشر بالنقاط التركية وملاصق لها، وعبر اللقاءات اليومية مع المجندين الأتراك وجد نفسه وسيطاً لجلب ما يحتاجونه من أغراض. يقول "بدأ بشكل طوعي، وبازدياد الطلبات ومتطلبات التنقل كان لا بد من أخذ أجور تناسب طول الطريق اللازمة وكمية ونوعية الأغراض".

تتطلب الوساطة بين الأسواق في إدلب والنقاط التركية وجود جندي تركي يتكلم العربية، وهؤلاء غالباً ما يكونون من المدن المحاذية للحدود السورية التي ما زال الكثير من سكانها يتكلمون العربية حتى اليوم، وهم موجودون بين الجنود بحسب فادي الشامي (25 عاماً) من بلدة تفتناز. وعند خلو النقطة من أي مجند يتقن العربية، فلا بد من وسيط محلي يتكلم التركية، وهو ما يتمتع به فادي الذي عمل في تركيا لخمس سنوات قبل أن يعود إلى سوريا وقد اكتسب اللغة التركية في حدودها الدنيا، وهو ما يراه الأتراك كافياً للتعامل معه. يتابع فادي "يراني المجندون الأتراك الأفضل للتعامل، ما أدى إلى تركيز مهمتي على أسواق الهواتف ومستلزماتها وغيرها من الأشياء غالية الثمن، والتي تتطلب دقة في المحاسبة".

الفلافل من بين أهم الأطعمة التي يشتريها الجنود الأتراك وفق أبو أسعد، وهو مالك مطعم في مدينة بنش يشتري منه الوسطاء الطعام للجنود الأتراك. يلاحظ أبو أسعد الطلب الزائد على الفلافل من قبل الأتراك، ويشير إلى أنه "مع الأطعمة الطازجة التي يوفرها الوسطاء، بدأت حالة الاستغناء عن المعلبات الجاهزة التي تأتي من تركيا عن طريق الإمدادات لأسباب مثل فرق الجودة بين المأكولات المعلبة والمأكولات الطازجة، خصوصاً مع وجود وجبات في السوق السورية تشترك مع السوق التركية كالشاورما والفروج المشوي".

تتعدى مشتريات الجنود الأتراك الأطعمة، إذ لاحظ تجار بنش وتفتناز القريبتين مع بعض النقاط التركية ازدياد الحركة الشرائية من مراكز تسوقهم، ويلفت حسن الغانم المحاسب في مركز تسوق في بنش، إلى أنه صار يستقبل قائمة المشتريات عبر "واتساب" لتجهيزها مسبقاً بسبب الكميات الكبيرة التي يشتريها الوسطاء من مركز التسوق الذي يعمل فيه.

يذكر حسن أن احتياجات الأتراك لا تقتصر على الطعام والشراب الأساسيين، بل تشمل أحياناً أنواعاً غالية الثمن من "أطعمة وأشربة الرفاهية مثل سنيكرز ومارس وكيندر وقهوة ستاربكس المعلبة"، بالإضافة إلى كرات أو مستلزمات تكنولوجية خاصة بألعاب الهواتف.

أما عن المعلبات التي بدأ المجندون الأتراك بالاستغناء عنها ببيعها عبر الوسطاء لمتاجر مفتوحة خصيصاً لهذا الغرض، فمنها المعكرونة بصلصة البندورة واللحم بالرز والحبوب والخضار المحشية، غير أن ما يشترك في معظم تلك المعلبات وجود صلصلة البندورة وبشكل أقل حبات المعكرونة صغيرة الحجم.

أحمد قدور (32 عاماً) صاحب أحد المتاجر في بنش التي يقايض فيها الوسطاء المعلبات التركية باحتياجات أخرى أو بيعها بشكل نهائي. يقول "المعلبات التي تأتينا متنوعة ومعظمها من المطبخ التركي غير المألوف لدينا، لذلك نعرضها بأسعار منخفضة. هذا لا يعني صعوبة بيعها فهناك شريحة كبيرة من سكان إدلب تعيش تحت خط الفقر، وهم من يضطرون إلى شراء هذه المعلبات المتنوعة بكثرة".

ويبين أحمد أنه يشتري المعلبات بأسعار تتراوح بين النصف ليرة والثلاث ليرات للعلبة الواحدة تبعاً للنوعية والحجم، وأن هامش الربح الذي يكسبه بين النصف ليرة والليرة في العلبة حسب الطلب على كل نوع منها.

وبعيداً عن الطعام والشراب وحاجيات الرفاهية، يتوجه عبد الله عبيد (الذي يعمل حلاقاً في بنش) إلى ثلاث نقاط تركية كل 15 يوماً بناء على طلبهم. وعن ذلك يشرح "مهمتي لا تحتاج إلى تواصل شفهي كبير، لذلك كان من السهل تعاملي مع المجندين الأتراك. أحلق شعر رؤوس جميع الموجودين في النقاط الثلاثة بشكل دوري، وأتقاضى لقاء عملي من الجنود مثل أي زبون آخر، ولكن يزيد عليها فقط سعر المواصلات".

أما محمد بدر الشاب (18 عاماً) وهو ابن أحد ملاك المشاريع الزراعية في مدينة تفتناز والتي أنشأ الجيش التركي نقاطه بالقرب منها، فهو أكثر احتكاكاً بالجنود بسبب عمله في مساعدة أبيه في المشروع الذي يشترك بطريق فرعي مع نقاطهم العسكرية. يقول "باختلاطي اليومي عبر السنوات السابقة بالجنود الأتراك، أصبحنا على معرفة جيدة ببعضنا البعض، نتبادل الدعوات على الطعام، ولكن الأكثر مرحاً هو تبادلنا طلبات الصداقة على مواقع التواصل والتعليقات المستمرة هناك".

يستطرد محمد "طلبوا مني مرة أن أذهب لمقابلة ضابط عالي الرتبة ليسألني عن بعض التفاصيل الجغرافية والزراعية في المنطقة". ويصف حالة من الصداقة التي أصبحت منتشرة بين المزارعين والمنازل القريبة وبين عناصر النقاط التركية.